الفراغ في عامه الثاني… إصلاحات مفقودة واقتصاد متردٍ

هدى علاء الدين

دخل لبنان رسمياً العام الثاني من الفراغ بعدما أمضى 365 يوماً من دون رئيس للجمهورية على وقع توترات أمنية وقلق متزايد من الدخول في دائرة الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة. فمنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 تشرين الأول 2022، فشلت القوى السياسية في انتخاب رئيس جديد على مدى 12 جلسة نيابية كان آخرها في حزيران الماضي، بسبب الخلافات بين القوى السياسية بشأن الصلاحيات والمعايير المطلوبة للترشح وهوية الرئيس المقبل.

جسدت أشهر العام الأول من الفراغ الرئاسي في لبنان الانهيار الشامل، بحيث دفع كل من الاقتصاد والمواطن ثمن تجاذبات القوى السياسية الداخلية التي أودت بهما إلى الهاوية. فلبنان الذي يعيش دوامة الفراغ الرئاسي، أصبح أسيراً لتبعاته السلبية لا سيما على صعيد تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، بما فيها رئاسة مجلس الوزراء ومجلس النواب، وفرملة عملية النهوض بالاقتصاد المدمر.

وفي ظل غياب رئيس للجمهورية، الذي يلعب دوراً مهماً في توحيد البلاد واتخاذ القرارات المصيرية، تفاقمت الأزمة الاقتصادية وتراجعت أبرز المؤشرات المالية، فارتفعت معدلات التضخم بصورة كبيرة (251.5 في المئة)، وتراجعت قيمة العملة اللبنانية أمام الدولار (90000 ليرة مقابل الدولار)، وأصبح معظم اللبنانيين تحت خط الفقر (85 في المئة من اللبنانيين في “فقر متعدد الأبعاد”). كما تراجعت احتياطيات لبنان من العملات الأجنبية بصورة كبيرة إلى ما دون الـ 9 مليارات دولار في العام 2023، وارتفع الدين العام إلى ما يزيد عن 102 مليار دولار، ليكون لبنان بذلك ضمن قائمة الدول الأكثر مديونية في العالم. كذلك أدى هذا الفراغ إلى تعطيل العديد من الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وعرقلة مسارها، وقوّض قدرة لبنان على مواجهة التحديات المتزايدة في وقت كان يجب عليه القيام بجهود متواصلة لمعالجة أزمته المالية.

ومن أبرز الاصلاحات التي تعطل تنفيذها خلال هذا العام، تأخير تنفيذ خطة التعافي، وإعادة هيكلة المصارف التي تعد عملية ضرورية لاصلاح القطاع المصرفي الذي يعاني من مشكلات جوهرية تتعلق بزيادة رأس المال ونقص السيولة وكيفية إعادة أموال الودائع، فضلاً عن إصلاح القطاع العام الذي يعاني من الفساد وسوء استخدام الموارد العامة وعدم الكفاءة والبيروقراطية التي تؤدي جميعها إلى بطء الاجراءات الحكومية وتأخرها، إلى جانب حالة الجمود التي أصابت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بعدما تقاعس لبنان عن دوره الاصلاحي.

تجربة الفراغ ليست الأولى في لبنان، فقد شهد منذ الاستقلال وحتى اليوم أربعة شواغر رئاسية، الشغور الأول كان مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في 22 أيلول 1988، واستمر لمدة سنة و44 يوماً. الشغور الثاني كان مع انتهاء الولاية الممددّة للرئيس إميل لحود في 23 تشرين الثاني 2007، وانتهى بعد نحو 6 أشهر. أما الشغور الثالث فقد بدأ بانتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وكان الأطول، إذ امتد لسنتين وخمسة أشهر. وفي تشرين الأول عام 2022، دخل لبنان الفراغ الرئاسي الرابع مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون والذي لا يزال مستمراً حتى اليوم.

أدت هذه الشواغر الرئاسية جميعها إلى ضياع الوقت والفرص وتفاقم الأزمات واستنزاف موارد لبنان المالية حتى باتت عبئاً ثقبلاً على اقتصاده، إلا أن الفراغ الحالي كان له الثمن الأغلى في ظل أزمة اقتصادية ومالية كانت الأقسى على لبنان في تاريخه الحديث عصفت به منذ العام 2019. ومع استمرار الفراغ الرئاسي وحكومة تصريف الأعمال، وتولي حاكم مركزي بالانابة حاكمية مصرف لبنان، بالاضافة إلى اقتراب موعد انتهاء ولاية قائد الجيش والمديرالعام لقوى الأمن الداخلي، يتجه الوضع الحالي إلى المزيد من التعقيدات في الأزمة الاقتصادية ويؤخر جهود معالجتها، ويزيد من كلفة التعافي نتيجة عدم اليقين وانخفاض الثقة الداخلية والخارجية، وصعوبة الوصول إلى توافق سياسي حول الاصلاحات اللازمة.

خسر لبنان عاماً جديداً من أعوام بدء مسار التعافي الاقتصادي الذي يتطلب تنفيذ إصلاحات هيكلية في القطاعات الاقتصادية لتحفيز النمو من جديد واستعادة الثقة المالية كمدخل وحيد لتدفق العملة الأجنبية التي تعمل على تعزيز احتياطي مصرف لبنان المستنزف. وفي عهد الفراغ الرابع، يبقى مصير الاقتصاد مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعجز السياسي، الذي يقضي على كل فرص الانقاذ ويسهم في استمرار الأزمة وتفاقمها، إلى حين إنهاء هذه الحلقة المفرغة عبر فك الارتباط بين الفراغ الرئاسي والأزمة الاقتصادية من خلال انتخاب رئيس جديد قادر على تقديم رؤية إنقاذية تعيد للبنان بنيانه الاقتصادي الذي كان ينعم به سابقاً.

شارك المقال