على وقع حرب غزة… الاقتصاد الفلسطيني يُواصل النزيف

سوليكا علاء الدين

للشهر الثاني على التوالي، تواصل آلة الحرب الاسرائيلية القتل والدمار في قطاع غزّة مُخلّفة وراءها سلسلة من الخسائر الفادحة في الأرواح البشرية والمآسي الاقتصادية والاجتماعية التي ستنعكس بصورة مباشرة وغير مباشرة على الوضع الانساني المُتردي. فالقطاع الذي يرزح منذ 17 عاماً تحت حصار قاس، يشهد تراجعاً في النمو الاقتصادي بعد أن بات عرضة لصدمات اقتصادية غير مسبوقة، بحيث تخطّت معدلات الفقر وسوء التغذية حاجز الـ 80 في المئة وتجاوزت نسبة البطالة الـ 45 في المئة خلال النصف الأول من العام 2023، ناهيك عن اعتماد 80 في المئة من الأفراد في القطاع على المساعدات الدولية.

ومع استمرار العدوان الاسرائيلي، من المرجّح أن تكون تداعيات الحرب الأشد وطأة والأكثر كلفة بحيث أشارت الاحصاءات الأولية إلى تكبّد الاقتصاد الفلسطيني خسائر بقيمة 3 مليارات دولار مع امكان ارتفاعها إلى 5 مليارات دولار في كانون الأول 2023، بالاضافة إلى توقعات بانكماش الاقتصاد بنسبة 12 في المئة هذا العام. أمام هذا الواقع المرير، حذّرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الاسكوا” من تعرض قطاع غزة لتدمير شامل وتداعيات اقتصادية كارثية جراء الحرب الاسرائيلية المستمرة. وتحت عنوان “حرب غزة: التداعيات الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين”، أشارت “الاسكوا” إلى تعرّض النشاط الاقتصادي الفلسطيني لصدمة شديدة نتيجة الحصار الكامل على غزة، وتدمير رؤوس الأموال، والنزوح القسري، والقيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع في الضفة الغربية. كما أظهرت التقديرات احتمال وقوع خسائر في الناتج المحلي الاجمالي قد تصل إلى 15 في المئة في حال استمرت الحرب لثلاثة أشهر، وذلك مقارنة بالمستوى المتوّقع لعام 2023 قبل الحرب.

وبحسب التقرير، لفتت تقديرات منظمة العمل الدولية إلى فقدان 61 في المئة من فرص العمل في قطاع غزة، أي ما يعادل 182,000 وظيفة، مع بلوغ الحرب شهرها الأول. أما في الضفة الغربية، فقد فُقدت نسبة 24 في المئة من فرص العمل، أي ما يعادل 208,000 وظيفة. ومن شأن إجمالي الوظائف المفقودة المقدرة بـ 390,000 وظيفة في القطاع والضفة أن يؤدي إلى تسجيل خسائر يومية في دخل العمل تقارب الـ 16 مليون دولار أميركي، وهو رقم قابل للارتفاع في حال تواصل الحرب.

أما على الصعيد الصحي، فقد أفادت الأرقام بخروج أكثر من ثلث المستشفيات ونحو ثلثي مراكز الرعاية الصحية في قطاع غزة عن الخدمة منذ اندلاع الحرب وذلك بسبب الأضرار التي لحقت بها نتيجة للقصف الاسرائيلي أو بسبب شح الوقود نتيجة للحصار. ومن المرجّح أيضاً، أن يؤدي نقص الغذاء وانقطاع الماء والكهرباء إلى تفاقم تدهور الوضع الصحي، لا سيما لأولئك الذين يعانون من حالات صحية مزمنة. وأشارت التقارير إلى أنّ 45 في المئة على الأقل من المساكن في غزة قد دُمّرت أو تضرّرت بسبب القصف المستمر، في حين تعرّض ما يزيد عن 40 في المئة من المرافق التعليمية لأضرار جسيمة. كما أظهرت ارتفاعاً في مستوى البطالة يتراوح ما بين 5 و13 نقطة مئوية، وذلك حسب مدة الأعمال العدائية، مقابل 24.7 في المئة قبل الحرب الحالية مباشرة. من جهة ثانية، توقّعت أن يكون للصراع تداعيات متعددة الأوجه على الأعمال التجارية مثل إلحاق الضرر بعمليات الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، التي يُقدّر أنها تشكّل نحو 98 في المئة من جميع الشركات في فلسطين المحتلة، والتي تمتلك قدرات وموارد محدودة لتحّمل الصدمات، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم مستويات البطالة.

كذلك من المتوقع أن يزيد انتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي، بحيث أشارت التقديرات إلى أن معدّل الفقر في غزة بلغ 61 في المئة في العام 2020. ووفقاً لدراسة “الاسكوا” التي نظرت إلى ثلاثة سيناريوهات للحرب الحالية من خلال اعتماد نموذج التوازن العام القابل للحوسبة لمحاكاة آثار الحرب في غزة على الأراضي الفلسطينية المحتلّة كافة، فمن المرجّح أن يصل معدل الفقر من خط الأساس الحالي البالغ 26.7 في المئة في العام 2023 إلى 31.9 في المئة في سيناريو استمرار الحرب لمدة شهر، وأن يرتفع إلى 35.8 في المئة في سيناريو استمرار الحرب لمدة شهرين، وإلى 38.8 في المئة في سيناريو استمرارها لثلاثة أشهر. وقد طال انعدام الأمن الغذائي الحاد أو المتوسط 62.9 في المئة من الأسر في غزة في العام 2022، وصرّحت 73 في المئة من الأسر أنها تلقت مساعدات إنسانية في الأشهر الستة السابقة للتقويم، في حين ذكرت أكثر من 50.5 في المئة من الأسر أنّ المساعدات غير الحكومية أو الخيرية هي مصدر دخلها الرئيس.

تبعاً لسيناريوهات الدراسة الثلاثة، من المتوقع بعد بلوغ الحرب شهرها الأول أن ينخفض الناتج المحلي الاجمالي الفلسطيني بمقدار 4.2 في المئة، مقارنة بتقديرات ما قبل الحرب لعام 2023، ما يعني تكبّد خسائر قدرها 857 مليون دولار. وإذا استمرت الحرب لشهر ثان، فسوف ترتفع الخسائر الاقتصادية المقدرة إلى 8.4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، أو 1.7 مليار دولار. أما في حال استمرارها لشهر ثالث، فستصل الخسائر إلى 12.2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، أي إلى 2.5 مليار دولار. ومن المرجح أيضاً وفق الدراسة أن تكون للحرب تداعيات على الناتج المحلي الاجمالي في العام 2024. ففي ظل السيناريو المتفائل، من المرجّح أن يسجل الناتج المحلي الاجمالي في العام 2024 انخفاضاً اضافياً قدره 904 ملايين دولار (4.2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي المتوقع لعام 2024) إذا استمرت الحرب لمدة شهر واحد، وانخفاضاً اضافياً بقيمة 1.5 مليار دولار (6.9 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي لعام 2024) في حال استمرار الحرب لمدة شهرين، و1.9 مليار دولار (8.7 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي لعام 2024) إذا استمرت الحرب ثلاثة أشهر.

ومن المتوقع أن يعود الانخفاض في الناتج المحلي الاجمالي إلى انخفاض التدفقات التجارية وتدفقات رأس المال وتراجع الاستثمارات المستقبلية، وتدّني الانتاجية وارتفاع تكاليف الانتاج. كما من المتوقع أن ينخفض الاستثمار بنسبة 44.3 في المئة، وأن تتراجع الصادرات بنسبة 27.7 في المئة والواردات بنسبة 14.3 في المئة في حال استمرار الحرب لمدة ثلاثة أشهر.

خسائر الحرب طاولت أيضاً القطاعات الاقتصادية الخاصة، بحيث أشار الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني إلى أنّ ثلث منشآت القطاع الخاص توقف عن الانتاج في فلسطين نتيجة توقف شبه تام في عجلة الانتاج لحوالي 56 ألف منشأة في قطاع غزة. كما أشارت التقديرات الأولية إلى أنّ انتاج القطاعات الاقتصادية في الضفة الغربية خلال شهر تشرين الأول 2023 قد فقد ما نسبته 37 في المئة من انتاجه مقارنة مع المعدل الطبيعي للإنتاج الشهري بخسارة تقدّر بحوالي 500 مليون دولار أميركي شهرياً. في المقابل، خسر قطاع غزة ما نسبته 84 في المئة من إنتاجه الطبيعي خلال شهر العدوان عليه أي بما يعادل 200 مليون دولار أميركي، وهو ما سينعكس سلباً على الايرادات العامة في فلسطين.

على صعيد آخر، شهدت أسعار السلع الاستهلاكية في قطاع غزة ارتفاعاً حاداً بنسبة 12 في المئة خلال شهر تشرين الأول 2023 مقارنة بشهر أيلول 2023، كما ارتفعت أسعار مواد الوقود وأجور النقل. كذلك تراجعت القوة الشرائية للأسر الفلسطينية في القطاع بنسبة 11 في المئة خلال العدوان الاسرائيلي على القطاع مقارنة بشهر أيلول 2023. مع الاشارة إلى أن إسرائيل قامت بإلغاء تصاريح حوالي 19 ألف عامل فلسطيني من سكان غزة كانوا يعملون في إسرائيل بصورة يومية.

من المرجح أن تفضي الحرب إلى العودة بمستوى التنمية البشرية عموماً لفلسطين المحتلة ما بين 11 عاماً و16 عاماً إلى الوراء، وذلك بفعل تراجع مستويات التحصيل العلمي، وانخفاض العمر المتوقع وتدني نصيب الفرد من الدخل، ونقص التغذية. فالدمار الهائل سوف يُرجع غزة سنين إلى الوراء وستمتد آثاره إلى الأجل الطويل ومن شأنه أن يُلحق عواقب وخيمة بالنشاط الاقتصادي والصحة والتعليم وآفاق التنمية في المستقبل. وكان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” قد أفاد الشهر الفائت بأنّ التداعيات الاقتصادية لحرب غزة “من المستحيل تحديدها”، مقدّراً حجم المساعدات المطلوبة لتعويض ما جرى في غزة بسبب حصارها لسنوات طويلة بمليارات الدولارات.

ومع دخول الحرب على غزّة شهرها الثاني، يُصبح السيناريو الثالث الأكثر واقعية مع انعدام أي بوادر انفراجات قريبة، ليبقى السيناريو الأكثر خطورة هو استمرار الحرب المدمرة لأشهر عديدة أخرى مع ما تحمله من مرارة وحرمان ومعاناة تلو المعاناة لأهل القطاع الذي سوف يحتاج إلى سنوات لاعادة ترميم ما دمرته الحرب بشراً وحجراً.

شارك المقال