الاقتصاد اللبناني يترنّح في رمال الحرب المتحركة

سوليكا علاء الدين

منذ اندلاع حرب غزّة في السابع من تشرين الأول الماضي، وشبح الحرب يُخيّم على اللبنانيين الذين يعيشون يوميّاً حالة من الترقب لما ستحمله الأيام القادمة من تطورات على ساحة المواجهات العسكرية التي لا تزال محصورة ضمن إطار المناوشات الحدوديّة. وعلى الرغم من عدم توسّع نطاق الحرب في الوقت الحالي، إلّا أنّ تداعياتها الكارثية انعكست بصورة سلبية ومباشرة على الاقتصاد اللبناني الهش بمختلف قطاعاته التي سجّلت تراجعات إضافية ملحوظة.

أول ضحايا الحرب وأكثرها تأثراً بالعدوان الاسرائيلي على غزّة هو القطاع السياحي، العمود الفقري للاقتصاد في لبنان والذي يساهم في أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. فالقطاع الذي شهد فترة من الانتعاش خلال موسم الصيف 2023، بات يحتاج إلى إنعاش طارئ بعد إلغاء معظم رحلات نهاية العام وحجوزات عيدي الميلاد ورأس السنة بحيث كان الاعتماد على دولارات اللبنانيين الوافدين من الخارج، لينتهي موسم السياحة الشتوي قبل أن يبدأ. وأشارت التقديرات إلى أنّ خسارة لبنان من الايرادات السياحية سوف تتراوح قيمتها ما بين المليار والملياري دولار خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.

كما تكبّد قطاع الفنادق خسائر فادحة، فبعد أن بلغت نسبة الحجوزات خلال الموسم الصيفي 75 إلى 100 في المئة، سجّل القطاع تراجعاً كبيراً بحيث تمّ تقدير نسبة الطاقة التشغيلية الحالية ما بين 5 و7 في المئة، في حين بلغت حجوزات بعض الفنادق صفر غرف. كما شهد قطاعا المطاعم والسهر تراجعات كبيرة في حجم الأعمال وصلت نسبتها إلى 80 و90 في المئة.

تداعيات الحرب الباردة التي يعيشها لبنان لا تقتصر على القطاعات السياحية والخدماتية وحسب، بل شملت أيضاً القطاع الزراعي الذي نال حصّتة الكبيرة. فالأراضي الزراعية في المناطق الجنوبية لم تسلم من الاعتداءات الاسرائيلية، وتضرّر المزارعون بصورة سلبية جراء صعوبة الوصول إلى مزارعهم وأراضيهم وجني المحاصيل وبالتالي خسارتهم مورد رزقهم الرئيس وانعكاس ذلك على عمليات التنتاج والتصدير. كما أنّ القصف الاسرائيلي على المناطق الحدودية أدّى إلى القضاء على نحو 40 ألف شجرة زيتون وإحراق مئات الكيلومترات من الأراضي المُنتجة، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلباً على الناتج الاقتصادي الوطني.

كذلك شهد القطاع التجاري إرتفاعاً في الطلب على المواد الغذائية والمواد الضرورية اليومية، بحيث تهافت العديد من المواطنين على شراء السلع الغذائية والاستهلاكية من المتاجر للتخزين خوفاً من فقدانها أو انقطاعها من السوق أو حتى احتكارها من تجار الأزمات الذين يسارعون كعادتهم إلى استغلال الوضع ويرفعون أسعار السلع والبضائع بطريقة مُتسرّعة وغير مُبرّرة مُستفيدين من غياب آليات الرقابة والمحاسبة. أما في ما يتعلّق بالسلع الأخرى والكماليات، فقد سجلت انخفاضاً بنسبة تراوحت بين 50 و70 في المئة.

وعلى وقع حالات الانكماش والتراجعات الدراماتيكية التي أصابت القطاعات الاقتصادية كافة، وفي ظل سيطرة حالة عدم اليقين على مصير لبنان، تبقى المحافظة على هدوء سعر صرف الليرة اللبنانية هي الايجابية الوحيدة. فمع كل التوتر والتصعيد العسكري الحاصل، لا يزال سعر الصرف مستقراً عند حاجز الـ90 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد. ويعود سبب الاستقرار هذا إلى مواصلة تجفيف السوق من جميع السيولة بالليرة اللبنانية وبالتالي التخفيف من عمليات المضاربة، كذلك إلى وجود كميات كبيرة من دولار الصيف المتداولة في السوق وحرص الحاكم بالانابة وسيم منصوري على الإمساك بزمام الأمور، غير أنّ هذا الثبات يبقى عرضة لأي اهتزازات مُحتملة لا سيما في حال توسّع رقعة الحرب، كون الاستقرار الحالي يعتمد على بنية هشّة ولا يعكس أي تحسن في المؤشرات أو الاصلاحات الاقتصادية والمالية والنقدية.

على الرغم من عدم انخراط لبنان بصورة رسمية في الحرب المُشتعلة منذ أكثر من شهر، غير أن الفاتورة التي يدفعها باهظة الثمن. فقبل اندلاع الحرب، توقّع معهد التمويل الدولي أن يرتفع الناتج المحلي الاجمالي للبنان بنسبة 0.6 في المئة في العام 2023 و1.2 في المئة في العام 2024. كما توقّع أن يصل احتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان إلى 9 مليارات دولار في العام 2023، و8 مليارات دولار في العام 2024 على التوالي. أمّا في حال إبقاء الحرب في غزة تحت السيطرة، فأشارت تقديرات المعهد إلى انكماش الناتج المحلي الاجمالي للبنان بنسبة 0.5 في المئة في العام 2023، وبنسبة 4 في المئة في العام 2024 و30 في المئة إذا طال أمد الحرب، ناهيك عن انخفاض احتياطيات العملات الأجنبية إلى 8 مليارات دولار في العام 2023 و6 مليارات دولار في العام 2024.

لا شك في أنّ تمدّد الحرب من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم التحديات الكارثية التي يواجهها الاقتصاد اللبناني المتأزم منذ أكثر من أربع سنوات، وهو غير قادر على تحمّل أعباء أي صدمات جديدة في ظل هيمنة الفراغ على كرسي رئاسة الجمهورية وتفكك مؤسسات الدولة وتصاعد حدّة الانقسامات الداخلية التي تجعله عاجزاً عن حماية إقتصاده الذي يخشى الغرق في رمال الحرب المتحركة وعدم النجاة منها.

شارك المقال