من الأزمة الى التعافي… خطة استراتيجية من “هارفارد”

سوليكا علاء الدين

تخطف الحرب على قطاع غزة أنظار العالم بأسره، بما في ذلك اللبنانيون الذين يقفون على بعد خطوات قليلة منها، بعد أن دخلوا العام الخامس من أزمتهم المتفاقمة. ومع تواصل الحرب على القطاع، تسيطر حالة من الجمود على الملف اللبناني بانتظار ما ستؤول إليه نتائجها وكيفية انعكاسها على الساحة اللبنانية. ومع انسداد كل أبواب المعالجات السياسية والاقتصادية الداخلية، نشر قسم الأبحاث في جامعة “هارفارد” تقريراً حديثاً تناول الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان، وأشار إلى أنّ دولرة الاقتصاد اللبناني بالكامل هي الخطوة الأولى نحو تحقيق التعافي. ومع وجود جمهورية بلا رئيس لأكثر من عام وحكومة مُستقيلة منذ أيار 2022، قدّم التقرير خطة إنعاش “شاملة”، تضمّنت أربعة مجالات رئيسة من شأنها أن تمكّن لبنان من التغلب على أزمته هي: دولرة الاقتصاد، حل مشكلة إعسار المصارف، إعادة هيكلة الدين العام وتنمية مجالات جديدة للنمو الاقتصادي.

إذاً، تُعد الأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان من بين الأسوأ في التاريخ الحديث، فقد انهار الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 38 في المئة بالقيمة الحقيقية، وفقدت الليرة اللبنانية، التي تم تثبيتها أمام الدولار عام 1997، أكثر من 98 في المئة من قيمتها في السوق الموازية. كما تخلّفت الحكومة عن سداد ديونها، ولم يتمكن المودعون من الوصول إلى أموالهم المودعة في المصارف التجارية. وتمثل ديون القطاع العام، بما في ذلك الدين الحكومي ومطالبات المصارف التجارية على مصرف لبنان، أكثر من سبعة أضعاف الناتج المحلي الاجمالي الحالي، ناهيك عن انهيار خدمات القطاع العام. وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على أزمات المصارف والديون وانهيار العملة والنمو، لا تزال الحلول بعيدة المنال، بحيث تزداد الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها السكان مع مرور كل يوم إضافي.

ونظراً إلى التكلفة المتزايدة لتأخر الحلول، اقترح التقرير استراتيجية للتعافي الاقتصادي في لبنان تعالج جميع أبعاد الأزمة مع إدراك الحاجة إلى بدء التعافي الاقتصادي بسرعة. كما اقترح الانتقال في أقرب وقت ممكن إلى نظام نقدي قائم على الدولرة الكاملة. وفي ظل ضعف المصداقية السياسية والاعتراف بأن الاقتصاد والنظام المالي يخضعان إلى حد كبير للدولرة بحكم الأمر الواقع، فإنّ الدولرة الرسمية هي البديل الأفضل. كما أنّ اتباع نظام سعر صرف مُعوّم إلى جانب سياسة اقتصادية تستهدف التضخم، في اقتصاد يعتمد فعلياً على الدولار، من شأنه أن يؤدي إلى أسعار فائدة مرتفعة ومتقلبة وإلى إطالة أمد عدم الاستقرار في بيئة الاقتصاد الكلي، الأمر الذي سوف يعوق مسار التعافي. وعلى الرغم من أنّ الدولرة الاجمالية لبلد مثل لبنان لا تخلو من القيود وسيبقى الاقتصاد بحاجة إلى جذب تدفقات ثابتة من العملات الأجنبية لتجنب الانهيار، كما أنّ هناك إمكانية لخسارة “الاستقلال النقدي”؛ الا أن التقرير أكّد أنّ هذا هو البديل الوحيد الممكن للبنان في ظل الظروف المالية والمؤسساتية، كما أنّ السلع وأسواق العمل في لبنان مندمجة بصورة فعلية وعميقة مع الدول، لا سيما الخليجية، المرتبطة بالدولار الأميركي.

كما سلّط تقرير “هارفارد” الضوء على معالجة الملاءة المالية لمصرف لبنان ومصارف البلاد، مُقترحاً إعادة هيكلة مصرفية مُستنداً إلى فهمه لأصول الأزمة. إذ أشار إلى أنّ سبب إفلاس النظام المصرفي التجاري يعود إلى حقيقة أن الأصول الرئيسة للمصارف – الودائع بالدولار لدى مصرف لبنان – قد فقدت الجزء الأكبر من قيمتها بسبب تراجع الملاءة المالية لمصرف لبنان. وعلى الرغم من قوة “المركزي” الاصدارية وقدرته على إصدار العملة بالليرة اللبنانية، فإن حجم التزاماته الصافية بالدولار يجعل منه مصرفاً معسراً. وبحسب التقرير، تعود كل الأزمات إلى تراكم غير مستدام للديون، ولكن ما يجعل الأزمة اللبنانية مختلفة هو الدور الذي يلعبه مصرف لبنان، البنك المركزي في البلاد. فقبل الأزمة، تم تمويل العجز عبر مصرف لبنان الذي قدّم ودائع بالدولار للمصارف التجارية. وبدوره، قام “المركزي” بتمويل الحكومة بالعملة المحلية. ومع اندلاع الأزمة، أدى عدم تطابق العملة إلى انهيار مصرف لبنان، ومعه المصارف؛ الأمر الذي جعل المواطنين اللبنانيين عاجزين عن الوصول إلى ودائعهم المصرفية.

ومن أجل حل هذه المشكلة، اقترح تحويل نحو 76 مليار دولار من الديون المستحقة على مصرف لبنان والمصارف إلى الدولة “في أقرب وقت ممكن”، مع حماية الودائع التي تتراوح قيمتها بين 100 ألف و150 ألف دولار. تتضمّن المرحلة الأولى من هذه الآلية إصدار “شهادات إعادة هيكلة مؤقتة” للمصارف، مقابل موافقتها على التنازل عن جزء من مطالباتها لمصرف لبنان. وبعد ذلك، تقوم المصارف بتبادل جزء من هذه الشهادات مع كبار المودعين، الذين يمكنهم بعد ذلك التوجه إلى الدولة لاسترداد ودائعهم تدريجياً.

كما اقترح التقرير أن يقوم مصرف لبنان بضخ الأموال في شكل ديون مترتبة على رأس المال لضمان حصول جميع المصارف على الرأسمال المطلوب. وسيتعين على مساهمي المصارف شراء القرض من مصرف لبنان بالقيمة الدفترية في غضون عامين إذا كانوا يرغبون في الاحتفاظ بالسيطرة على مؤسساتهم. وهذا من شأنه أن يترك للبلاد نظاماً مصرفياً مكتمل الملاءة، ولو بحجم صغير. وسيخرج مصرف لبنان أيضاً من هذه العملية بميزانية عمومية قادرة على السداد، ولكن بميزانية عمومية أصغر، نظراً الى انخفاض التزاماته الدولارية تجاه المصارف. ونتيجة لذلك، سيكون الاقتصاد اللبناني في وضع يسمح له بالبدء بعملية التعافي، وسيستعيد، على وجه الخصوص، إمكان الوصول إلى قاعدة الودائع المتبقية لديه. وهذا سيسمح للنظام المصرفي باستئناف عمليات الائتمان المحلية، حتى لو استغرقت إعادة هيكلة الدين العام مزيداً من الوقت.

ومن خلال آلية الشهادات المؤقتة، سينتقل الجزء الأكبر من الإعسار إلى الحكومة. وستتم إعادة هيكلة الشهادات جنباً إلى جنب مع سندات اليورو وغيرها من المطالبات للحكومة، وفقاً لبرنامج صندوق النقد الدولي. ويجب أن يكون الـ”hair cut” كبيراً بما يكفي لجعل الدين مستداماً، مع الأخذ في الاعتبار الاقتراض الجديد الذي سيكون ضرورياً لتمويل انتعاش الاقتصاد. ومن خلال هذا التسلسل في العمليات، سيكون الاقتصاد قد حل مشكلة الإفراط في المديونية في النظام المصرفي، ومصرف لبنان، والحكومة.

من جهة ثانية، أوصى التقرير بإعادة هيكلة الدين العام للبنان ضمن اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي يسعى لبنان الى الحصول على دعمه المادي منذ العام 2020. وقد تم اقتراح استهداف فائض أولي بنسبة 3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي بحلول العام 2030، وهو ما يمثل تحسناً بنسبة 6 نقاط مئوية مقارنة بالعجز المقدر حالياً. ويأتي التعديل المالي المقترح تدريجياً بسبب الحاجة إلى الموازنة بين الاحتياجات الفورية لاعادة الاعمار وإنعاش الخدمات العامة مع الاحتياجات متوسطة الأجل لخدمة الديون الناتجة. ويتطلب هذا التحول تمويلاً إضافياً بنحو 8 مليارات دولار أميركي وخصم من الديون الحالية بالاضافة إلى الشهادات المؤقتة التي قُدرت مبدئياً بحوالي 82 – 90 في المئة.

وكي يتمّ تطبيق هذا البرنامج، سوف تحتاج الحكومة إلى دعم قاعدة إيراداتها. وسيأتي جزء من الارتفاع في الايرادات من عملية تقليص التضخم، الأمر الذي سيؤدي إلى إزالة الآثار غير المواتية للتضخم على الحسابات المالية. بالاضافة إلى ذلك، فقد اقترح توسيع القاعدة الضريبية لضريبة القيمة المضافة وزيادة نسبتها من 11 في المئة إلى 15 في المئة، فضلاً عن تعزيز الجهود الرامية إلى زيادة ضرائب الدخل وتحصيل الضرائب.

وستمكّن خطة حل الأزمات الاقتصاد من تضييق الفجوة تماشياً مع الامكانات المُتاحة، بالاضافة إلى تطوير محركات جديدة للنمو الاقتصادي. كما ستُعزّز الدولرة الكاملة، والحل السريع للأزمة المصرفية، والاستئناف التدريجي للائتمان، وتحسين الحسابات المالية، والحل النهائي لأزمة الديون، مسار النهوض والتعافي. ولا بد من أن يذهب هذا التعافي إلى ما هو أبعد من استعادة البنية الاقتصادية السابقة المفتقدة للديناميكية، وأن يعتمد بصورة متزايدة على مصادر أحدث للنمو استناداً إلى الميزة التنافسية المتطورة التي تتمتع بها البلاد، وتشمل الصناعات ذات الامكانات الانتاجية، تصدير المنتجات الزراعية عالية الجودة، تعزيز الأنشطة السياحية، توسع الخدمات التجارية القائمة على المعرفة واستغلال موارد الغاز الطبيعي واستخدامها. وفي ظل كل هذه المساعي، سوف تكون مشاركة المغتربين الطموحة أمراً حاسماً.

حتى اليوم وعلى الرغم من اشتداد الأزمة، لم يتمكن صنّاع القرار السياسي اللبناني من إيجاد أرضية مشتركة كافية لمعالجة الأزمة الاقتصادية. وقد أدت التجاذبات والنكايات السياسية إلى تعطيل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإلى تأخير تنفيذ الإصلاحات اللازمة، ما زاد من معاناة اللبنانيين. لا يمكن تحقيق التعافي الاقتصادي من دون تأمين توافق وإجماع على أسباب الأزمة والحلول المطلوبة وكيفية تنفيذها. وفي حال تمكّنت الطبقة الحاكمة من التغلب على خلافاتها السياسية، ستكون هذه الخطوة هي فرصتهم الوحيدة لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية وإنقاذ لبنان من المأساة التي يتخبط بها.

شارك المقال