الحاكم بالإنابة يقود رحلة البحث عن الاستقرار النقدي في لبنان

سوليكا علاء الدين

بعد فترة حكم طويلة دامت ثلاثة عقود، تنحّى رياض سلامة عن عرش حاكمية مصرف لبنان في نهاية تموز الماضي، تاركاً خلفه إرثاً حافلاً بالنجاحات والانجازات، لكنه أيضاً مليء بكثير من اللوم والانتقادات. فسلامة، صاحب السلطة المطلقة، ومهندس السياسات المالية وعرّاب الاستقرار النقدي بعد الحرب الأهلية اللبنانية، قرّر طي صفحة الحاكمية بعد أن وُجّهت إليه أصابع الاتهام حول ثروته وسياسته وأدائه، وحاصرته الضغوط الشعبية والتحقيقات الدولية محمّلة إياه مسؤولية الانهيار الاقتصادي الذي ضرب لبنان. وفي يوم سلامة الأخير، وبعد الكثير من المد والجذر، أعلن نائبه الأول وسيم منصوري، استمرار عمله داخل “المركزي” وقبوله تسلّم مهام الحاكميّة بالإنابة إلى حين الاتفاق على تعيين حاكم أصيل.

تلويح بالاستقالة

قبل 25 يوماً من انتهاء ولاية رياض سلامة، فاجأ نوّاب الحاكم الأربعة الرأي العام اللبناني بإطلاق قنبلة تحذيرية مُلوّحين ومُهدّدين بالاستقالة الجماعيّة في حال عدم قيام مجلس الوزراء بتعيين حاكم جديد خلفاً لسلامة قبل نهاية فترة حكمه وذلك عملاً بالمادة 18 من قانون النقد والتسليف التي تنص على تعيين الحاكم لست سنوات بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية. ورفض النواب من دون حدوث أي تغيير في الاستراتيجية والمنهجية القائمة، ومن دون القيام بتنفيذ الاصلاحات الحاسمة.

أثار موقف النواب الأربعة الرافضين تسلم مهام حاكم مصرف لبنان، موجة من الغموض والجدل، وسط تساؤلات حول مصير المصرف من دون حاكم. وعادت عاصفة التلويح بالاستقالة لتهدأ، بعد أن قدم النواب خطة نقدية مالية شاملة إلى لجنة الادارة والعدل النيابية، بهدف إدارة المرحلة القادمة وإصلاح السياسة النقدية. وتضمنت الخطة إعادة النظر في مشروع الموازنة، وإقرار قانون “الكابيتال كونترول”، وإعادة هيكلة المصارف، ومعالجة الفجوة المالية، وحماية الودائع. كما طلب النواب تشريع قوانين الخطة الاقتصادية من مجلس النواب، بهدف توفير غطاء سياسي لقراراتهم.

وفي ما يتعلق بسوق الدولار، اقترح النواب التعاون بين الجهات المعنية لضبط السوق، وتحديد سعر الصرف بطريقة “مدارة” على منصة تبادل معترف بها دولياً، وتحسين عمق السوق، وذلك بحلول نهاية تشرين الثاني 2023، مع ضمان الاستقرار الاجتماعي وحماية القوة الشرائية للموظفين والسكان الأكثر فقراً. 

قبول مشروط بالاصلاحات

وفي ظهيرة يوم 31 تموز 2023، أعلن نائب الحاكم الأول وسيم منصوري تسلم مهام حاكمية المصرف بالانابة بعد انتهاء ولاية سلامة. ودعا إلى وضع قانون للسيطرة على رؤوس الأموال وقانون لاعادة هيكلة مالية وميزانية 2023 خلال فترة ستة أشهر، بالاضافة إلى تحرير سعر صرف الدولار. وشدد على استقلالية المصرف، مع اقتناعه بعدم إمكان تغيير السياسات الموجودة، معوّلاً على فترة انتقالية قصيرة يُسمح من خلالها بتمويل الدولة بموجب قانون على أن تبقى رواتب موظفي القطاع العام تُدفع وفق منصّة “صيرفة”. كما أصرّ على ضرورة رفع السريّة المصرفيّة عن ملفات الدعم لتحقيق الشفافية الكاملة، رافضاً أي دراسة تبرّر المساس بالتوظيفات الالزاميّة.

لاءات” منصوري

منذ تسلًمه دفة قيادة مصرف لبنان، رفع الحاكم بالانابة قائمة من “اللاءات” في وجه الدولة: لا لتغطية عجز الدولة. لا للمس بالاحتياطي الالزامي. لا لصرف أموال المودعين. لا لإقراض الحكومة. لا للابقاء على منصة “صيرفة” ولا لاعتماد السياسات السابقة.

في أولى تصريحاته الرسمية، شدّد منصوري على ضرورة فرض قيود صارمة على إقراض “المركزي” للدولة اللبنانية، مؤكّداً الحاجة الملحة إلى وقف هذا الاستنزاف. وأشار إلى أنّ استمرار نهج السياسات السابقة يفرض الانتقال إلى التوقّف عن تمويل الدولة بصورة نهائية. ولفت إلى أنّ هذا القرار يتطلّب تعاوناً قانونياً شاملاً بين الحكومة ومجلس النواب ومصرف لبنان ضمن خطّة مُتكاملة تضمن إعادة الأموال إلى “المركزي”، على أن يكون هذا القانون صادراً عن مجلس النواب وتحت رقابته.

ومع فشل الوصول إلى التشريع، جدّد منصوري تأكيده عدم تمويل الدولة نهائيّاً من مصرف لبنان لا بالليرة ولا بالدولار، في قرار يعكس توجه المصرف نحو تحقيق استقلالية مالية والتزامه بمبدأ عدم تمويل العجز المالي للحكومة.

وفور تسلّمه مهام الحاكمية بالإنابة، أعلن منصوري وقف قبول أي طلبات جديدة لمنصّة “صيرفة”. وقد أسفرت المفاوضات الجادة مع كلّ من وكالتي “بلومبرغ” و”رويترز”، عن الاتفاق على التعاون مع “بلومبرغ” الأميركيّة لتطوير منصّة تبادل جديدة تتسم بالمصداقية والشفافية، لتحلّ مكان “صيرفة” المُتوقّفة عن العمل. وتسعى المنصة الجديدة إلى تحقيق هدفين رئيسين: ضبط إيقاع سعر الصرف في السوق المالية، وتحديد السعر الرسمي المُعتمد من دون أي تدخل من مصرف لبنان، وصولاً إلى تطبيق سياسة توحيد سعر الصرف.

شفافية والتزام

في سابقة هي الأولى من نوعها، حرصاً من مصرف لبنان على تعزيز الشفافية وتوفير المعلومات اللازمة للرأي العام، أصدر بياناً مفصلاً بعد أقل من شهر على حكم منصوري، أظهر فيه بالأرقام موجودات “المركزي”. وتعهّد المصرف بعدم المساس بالاحتياطي الالزامي الذي بلغ مع نهاية تموز الماضي 8.573 مليارات دولار إلا لتسديد الالتزامات الخارجية فقط.

واستكمالاً لسياسة المصارحة، كشف الحاكم بالإنابة في 17 آب الماضي خلاصة تقرير التدقيق العالمي بمخزون الذهب لدى المصرف المركزي، بعد معاينة أكثر من 13 ألف سبيكة و600 ألف عملة ذهبية، أن المخزون الموجود في خزائن المصرف المركزي مطابق للكميات الموثقة في بيانات المالية.

وفي ما يتعلق بتأمين رواتب القطاع العام والاصلاحات المطلوبة من الدولة، أكد منصوري إتمام دفع رواتب القطاع العام بالدولار الأميركي وفق سعر “صيرفة” 85,500 ليرة. كما أوضح أنه تم الاتفاق على تأمين حاجات الجيش والقوى الأمنية من دون المساس باحتياطات مصرف لبنان والأموال الأجنبية. ومع إنهاء العمل تدريجياً بمنصة “صيرفة”، طلب منصوري تأجيل إلغاء مفاعيلها في ما يتعلق برواتب الموظفين، وذلك في انتظار رفع الرواتب ثلاثة أضعاف بناءً على قرار الحكومة على أن تستمر في دفع رواتب القطاع العام بالدولار، ولكن وفقاً لسعر السوق البالغ 89,500 ليرة للدولار الواحد.

ومن ضمن سلسلة القرارات التي اتخذها منصوري، إصدار قرار بتجميد جميع الحسابات العائدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة لكل من رياض سلامة، وشقيقه رجا، ونجله ندي، ومساعدته ماريان الحويك، وصديقته آنا كوزاكوفا. كما رفعت السرية المصرفية عن هذه الحسابات تجاه المراجع القضائية المختصة باستثناء حسابات توطين الراتب.

ومن أجل ترسيخ الثقة بين المواطن والقطاع المصرفي، أكّد منصوري أنّ إعادة أموال المودعين في لبنان ليست بالأمر المستحيل، باعتبارها شرطاً أساسياً لاعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي وبالدولة ككل. وطرح منصوري مقترحاً جديداً يتمثل في فرض ضريبة لمرّة واحدة على أرباح القروض الكبيرة بالدولار. وتحدد نسبة الضريبة بموجب قانون يُقرّ في مجلس النواب. ويشمل الاقتراح المستثمرين الذين حصلوا على قروض من المصارف قبل بدء الأزمة، ثم قاموا بإعادتها بالليرة اللبنانية على أساس السعر الرسمي آنذاك 1500 ليرة لبنانية، والذي أدّى إلى تحقيقهم أرباحاً طائلة. المقترح لا يشمل أرباح القروض الشخصية أو الخاصة أو السكنية، وإنما يشمل أرباح قروض الدولار الكبيرة فقط. وستُوضع الضرائب المستوفاة في صندوق خاص في المصارف، ليتم دفعها مباشرةً بالـ “فريش” دولار للمودعين، كجزء من حقوقهم المالية.

الدولار ثبات وإثبات جدارة

من أبرز ما يُسجّل لحاكم مصرف لبنان بالإنابة، حتى اليوم، نجاحه في الحفاظ على هدوء سعر صرف الدولار في لبنان، على الرغم من كل التحديات التي واجهته منذ تسلمه مهامه في نهاية تموز الماضي. ففي ظل استمرار الشغور الرئاسي، والاضطرابات الأمنية المُتنقّلة، والعقوبات الدولية المفروضة على الحاكم الأسبق رياض سلامة، والكشف عن تقرير الفضيحة لشركة “ألفاريز إند مارسل” الأميركية عن التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والحرب على غزة وانعكاسها على الاقتصاد اللبناني، بقي الدولار صامداً في استقراره منذ آذار 2023.

وكان مصرف لبنان رفع سعر صرف الدولار في منصة “صيرفة” من 85,500 ليرة إلى 89,500 ليرة، في محاولة لمقاربة سعر السوق الموازية البالغ 89,000 – 90,000 ليرة. وما توحيد سعرَي “صيرفة” و”السوق الموازية”، إلا خطوة تمهيدية نحو توحيد سعر الصرف تمهيداً لتحريره ووضع حد لفوضى التسعير وجنونه لا سيما مع بدء الحديث جدّياً عن قرب إطلاق منصة “بلومبرغ” الجديدة. على أن يتزامن ذلك مع البدء بتنفيذ الاصلاحات المطلوبة أبرزها إقرار قانون الموازنة عام 2024 و”الكابيتال كونترول”.

لا شك في أن استقرار سعر الصرف يُعد تحدياً رئيساً أمام المصرف المركزي. وقد حققت سياسات منصوري النقدية نجاحاً في تحقيق هذا الاستقرار، وذلك بعد أن كانت هناك توقعات بارتفاع قياسي لسعر الدولار بعد انتهاء ولاية الحاكم سلامة. ويدور في أروقة السلطة حديث عن وجود قرار سياسي بتهدئة وضع الدولار، وذلك إفساحاً في المجال أمام إنجاح فترة حكم الحاكم بالإنابة. 

إشارات مُشجّعة

في خطوة إيجابية مفاجئة وسط التخبط الذي يشهده لبنان، كشفت بيانات مصرف لبنان لشهر تشرين الثاني 2023 عن ارتفاع احتياطات مصرف لبنان من الدولار بنحو 500 مليون دولار، لتصل إلى 9 مليارات دولار، وذلك بعد انخفاضها خلال النصف الثاني من شهر تموز 2023. ووفق “المركزي”، تم تأمين هذه الدولارات من السوق ومن خلال التعاون مع الدولة.

كما أظهرت ميزانية مصرف لبنان ارتفاعاً في موجوداته الخارجية بمبلغ 66 مليون دولار خلال النصف الثاني من تشرين الثاني 2023. وبلغت السيولة الخارجية لـ “المركزي” 9.06 مليارات دولار في نهاية الشهر، مقارنةً بـ 9 مليارات دولار في منتصف الشهر عينه. وفي سياقٍ آخر، أظهرت الميزانية ارتفاعاً في قيمة احتياطاته من الذهب بنسبة 3.29 في المئة، لتصل إلى 18.80 مليار دولار أميركي جراء ارتفاع أسعار الذهب عالمياً.

ومؤخراً، أصدر الحاكم بالإنابة بياناً، أشار فيه إلى أن تقرير مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (مينافاتف) حول تدابير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب، أظهر أن لبنان أحرز نتائج مقبولة في الالتزام الفني بتوصيات مجموعة العمل المالي، بحيث حصل على درجة “ملتزم” أو “ملتزم إلى حد كبير” في 34 توصية، و”ملتزم جزئياً” في 6 توصيات، ما يتطلب بعض التعديلات في القوانين والتشريعات. وحصل لبنان على مستوى “متوسط” في تسع من النتائج المباشرة الاحدى عشرة لقياس الفعالية، ما يشير إلى أن منظومة مكافحة غسل الأموال وتمويل الارهاب اللبنانية حققت بعض النتائج الايجابية، لكنها تحتاج إلى مزيد من التعزيز.

حكم تحت المجهر

مع انتهاء ولاية الحاكم سلامة، دخل لبنان مرحلة حاكمية جديدة مع تولي وسيم منصوري الحكم بالإنابة. فالحاكم الصارم يسعى منذ استلامه المنصب، إلى الحكم بيد من حديد وقد استطاع أن يتصدّر واجهة المشهد النقدي والمالي في لبنان، فارضاً شروطه المُسبقة على الطبقة السياسية الحاكمة منذ البداية، كاشفاً أسرار المصرف المركزي بكل شفافية أمام الرأي العام ومبتعداً كل البعد عن نهج سلفه ليرسم بنفسه خريطة طريق لعهده القادم.

على الرغم من أنه لا يزال مبكراً الحكم على تجربة منصوري، إلا أن سياسته النقدية المتبعة وقراراته المتخذة نجحت حتى الآن في الإمساك بزمام الأمور. فقد استطاع السيطرة على تقلبات سعر الصرف، وتأمين رواتب القطاع العام بالدولار، وتوفير احتياجات المؤسسات العسكرية والأمنية. وقد ساعدت هذه النجاحات في الحفاظ على الانضباط النقدي، وتخفيف الضغط على الليرة اللبنانية. ويحقق مصرف لبنان، بقيادة حاكمه، تقدماً ملحوظاً في سبيل إعادة لبنان إلى الخريطة المالية العالمية واستعادة الثقة المحلية والدولية بالاقتصاد اللبناني. ومع ذلك، لا تزال هناك مخاوف من أن تؤدي الضغوط السياسية إلى عرقلة حكم الحاكم وإعادة “المركزي” إلى عهده السابق.

لا شك في أنّ تسلّم وسيم منصوري منصب حاكمية مصرف لبنان مسؤولية صعبة ومعقدة للغاية، بحيث تقع على عاتقه مهمة بناء الثقة وإنعاش المصرف المركزي وإصلاح الاقتصاد اللبناني المنهار. وعلى الرغم من تحقيق بعض النجاحات، إلا أن الطريق أمامه لا يزال طويلاً وشاقاً، ويحتاج إلى الكثير من الجهد والمثابرة والاستمرارية، مدعوماً بقدرته على مواجهة الضغوط السياسية وتنفيذ مجموعة من الاصلاحات الجوهرية؛ فالفشل ممنوع في قاموس منصوري، الذي يسعى إلى تحقيق النجاح الكامل في إدارة “المركزي” والأزمة. فهل سيستطيع استكمال رحلته والوصول إلى هدفه على الرغم من جميع الصعاب والتحديات؟

شارك المقال