لبنان خارج “القائمة الرمادية” ولكن…

سوليكا علاء الدين

أصدرت مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا (MENA FATF) تقريراً عن التقويم المتبادل للبنان في مجال تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الارهاب، تضمن تحليلاً لإجراءات لبنان في هذا المجال خلال الزيارة الميدانية التي أجرتها المجموعة في الفترة من 18 تموز إلى 3 آب 2022. وقد حلّل التقرير مدى الالتزام بتوصيات مجموعة العمل المالي الأربعين ومدى فاعلية نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كما قدّم العديد من التوصيات في شأن كيفية تعزيز النظام.

تقويم المخاطر

وأشار التقرير إلى أن لبنان أجرى عملية تقويم وطنية لمخاطر غسل الأموال وتمويل الارهاب، وقام بتحديثه وفقاً لمنهجية وطنية سليمة استندت إلى تحليل بيانات كمية وكيفية. وشاركت في هذه العملية فئات مختلفة من أصحاب المصلحة من القطاعين العام والخاص. وتضمنت نتائج التقويم الوطني للمخاطر الجرائم الأكثر خطورة والقطاعات المالية وغير المالية الأكثر عرضة لغسل الأموال وتمويل الارهاب. ومع ذلك، تبين أن هناك نقصاً لدى الدولة في فهم مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب الناجمة عن القطاع المالي غير المنظم، أنشطة منظمة محلية شبه عسكرية كبرى، فضلاً عن الفساد الحكومي في بعض المستويات الوظيفية العليا.

وإلى جانب التقويم الوطني للمخاطر، أجرى لبنان أيضاً العديد من التقويمات القطاعية المالية. وقد أظهرت هذه التقويمات أن الجهات المختصة في مكافحة تمويل الارهاب في لبنان لديها فهم جيد لمعظم مخاطر الارهاب وتمويله، باستثناء التهديدات المحتملة المرتبطة بأنشطة منظمة محلية شبه عسكرية كبرى. وفي ما يتعلق بغسل الأموال، فلدى معظم جهات القطاع العام في لبنان فهم جيد، والبعض منها لديه فهم متطور. أما في القطاع الخاص، فإن بعض الجهات لديها فهم جيد لمخاطر غسل الأموال وتمويل الارهاب، وعلى رأسها المصارف، بينما لا يزال البعض الآخر في طور رفع مستوى فهمه.

التقرير لفت إلى وجود بعض الاشكاليات في منطقية فهم لبنان لمخاطر قطاع تجارة المعادن النفيسة والأحجار الكريمة. ويعود ذلك إلى أن هذا القطاع يُعتبر ملاذاً آمناً للادخار والاستثمار وقت الأزمات. وبناءً عليه، فقد اعتمد تقويم الدولة لهذه المخاطر بصورة أساسية على الأهمية النسبية لهذا القطاع في الاقتصاد اللبناني وهو ما يستلزم تحديث تقويم المخاطر المرتبطة به بشكل أكثر شمولاً.

وتتمتع السلطات المختصة بإمكان الوصول المباشر وغير المباشر إلى شريحة واسعة من المعلومات المالية وغيرها من المعلومات ذات الصلة، وذلك أثناء فحص غسل الأموال والجرائم الأصلية المرتبطة به وقضايا تمويل الارهاب. وتستخدم هذه السلطات المعلومات المالية إلى حد كبير في التحقيقات المتعلقة بتمويل الارهاب، وبصورة محدودة في قضايا غسل الأموال والجرائم الأصلية المرتبطة بها. والجدير بالذكر أن جهات التحقيق تقوم بإرسال طلبات المساعدة للحصول على المعلومات المالية اللازمة إلى هيئة التحقيق الخاصة عن طريق النائب العام التمييزي.

ويتم تحديد قضايا غسل الأموال في لبنان بصورة رئيسة من خلال التحقيقات التي تجريها قوى الأمن الداخلي وهيئة التحقيق الخاصة، بناءً على التقارير المحالة على النيابة العامة التمييزية، وبدرجة أقل من مصلحتي الضرائب والجمارك. وخلص التقرير إلى أن التحقيقات في جرائم غسل الأموال التي تجريها السلطات اللبنانية لا تتفق إلى حد ما مع التهديدات والمخاطر التي تم تحديدها في التقويم الوطني للمخاطر في العام 2019. كما أن الملاحقات القضائية لا تتماشى بصورة وثيقة مع هيكل المخاطر، لا سيما في ما يتعلق بالتهريب الجمركي والتهرب الضريبي، وجرائم الاتجار غير المشروع بالمخدرات وجرائم الاتجار بالبشر.

مواجهة التحديات

كما استنتج التقرير أن لبنان يفتقر إلى سياسة واضحة لتحديد عائدات الجريمة وتجميدها ومصادرتها، مضيفاً أن لبنان لديه آليات مناسبة لتحديد الأشخاص والكيانات المستهدفة للتسمية وتطبيق العقوبات المالية المستهدفة المتعلقة بمكافحة تمويل انتشار التسلح. وفي ما يتعلق بالقطاع المالي، لاحظ التقرير أن المصارف وشركات تحويل الأموال تطبق نهج المخاطر تجاه عملائها، وتأخذ إجراءات محددة لخفضها. كما لفت إلى أن المؤسسات المالية تُنفّذ إجراءات العناية الواجبة تجاه العملاء بصورة مُرضية، ولكن بعض المؤسسات تقتصر على التحقق من هوية المالك الفعلي فقط.

كذلك، تقوم السلطات اللبنانية بتطبيق إجراءات الترخيص والتسجيل، واختبارات الأهلية والكفاءة بصورة مقبولة، ولكن رصد عدد من الثغرات فيها. ويسعى لبنان إلى توفير وتلقي المساعدة القانونية المتبادلة في مجال مكافحة غسل الأموال والجرائم الأصلية وتمويل الارهاب بصورة متفاوتة. كما تقوم الدولة من خلال سلطاتها المختصة بالتعاون غير الرسمي مع الجهات النظيرة من الدول الأخرى بأسلوب متفاوت في مجال مكافحة تمويل الارهاب. أما في مجال مكافحة غسل الأموال والجرائم الأصلية، مثل الاتجار بالمخدرات، فإن تعاون لبنان مع الدول الأخرى يعُتبر غير متناسب مع هيكل المخاطر.

إجراءات عاجلة

وقد وضعت مجموعة العمل المالي سلسلة من الإجراءات التي يجب على لبنان اتخاذها لمكافحة غسل الأموال وتمويل الارهاب، تشمل تعزيز فهم المخاطر وتنفيذ إجراءات تخفيفية، معالجة المخاطر من القطاع المالي غير المنظم، تقويم ومعالجة مخاطر منظمة شبه عسكرية محلية، تعزيز قدرات السلطات المختصة على مكافحة غسل الأموال وتمويل الارهاب، تحسين قياس الأداء ومراجعة فاعلية الاجراءات، تفعيل إدارة الأصول، تعزيز التعاون الدولي، تحسين كفاءة واجراءات النيابة العامة التمييزية في التعاون الدولي، التعاون في مكافحة المخدرات والارهاب، تسهيل وصول المخابرات إلى المعلومات المالية، مراجعة التزام المؤسسات المالية وغير المالية، تعزيز الوعي بمخاطر غسل الأموال وتمويل الارهاب في مجالات محددة، توحيد مفهوم المستفيد الحقيقي، تمكين الرقابة الأهلية والكفاءة، مكافحة الأنشطة غير المرخصة، تفعيل الرقابة على المهن القانونية والمحاسبية، تعزيز الامتثال لقرارات مجلس الأمن، مراقبة المنظمات غير الربحية وتوطيد امكانات المديرية العامة الجمارك وقدراتها.

اقتصاد نقدي مُعرقل

وتعقيباً على تقرير مؤسسة العمل الدولي، أصدر حاكم مصرف لبنان بالإنابة ورئيس هيئة التحقيق الخاصة وسيم منصوري تعميماً جاء فيه أن لبنان أحرز نتائج مقبولة في الالتزام الفني بتوصيات مجموعة العمل المالي الـ 40، بحيث حصل على درجة “ملتزم” أو “ملتزم إلى حد كبير” في 34 توصية. ولحظ أنه يجب إجراء تحسينات في التوصيات الـ 6 الباقية، والتي حصل فيها لبنان على درجة “ملتزم جزئياً”، ما يتطلب بعض التعديلات في القوانين والتشريعات. وفي ما يتعلق بالنتائج المباشرة الـ 11 لقياس الفعالية، فقد حصل لبنان على مستوى “متوسط” من الفعالية في 9 نتائج مباشرة. وهذا يعني أن منظومة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب اللبنانية حققت بعض النتائج الايجابية، ولكنها لا تزال بحاجة إلى تحسينات في بعض المجالات.

يُذكر أن تقرير “مينافاتف” قد جاء بالتزامن مع تقرير صادر عن البنك الدولي، بحيث أشار إلى أنّ مصرف لبنان لم ينجح في مواجهة مشكلة تفشي الاقتصاد النقدي (الكاش). وأوضح التقرير أن مصرف لبنان أصدر التعميم 165 بتاريخ 19 نيسان 2023، لاستئناف تسوية المعاملات عبر القطاع المصرفي، مُشيراً إلى أن الهدف المعلن من التعميم هو تعزيز الاقتصاد وتحفيز النشاط المصرفي، من خلال إلزام البنوك التجارية بتوسيع نطاق الخدمات المصرفية الأساسية (استخدام الشيكات والتحويلات الالكترونية والدفع بالبطاقة) لجميع التدفقات الأجنبية أو النقدية الداخلة إلى النظام المصرفي. وخلص التقرير إلى أن التعميم 165 لم يحقق أهدافه، حيث لا يزال الاقتصاد النقدي ينتشر في لبنان.

وأضاف التقرير أن تسوية المعاملات، باستثناء خفض الديون، كانت تتم نقداً في الغالب منذ بداية الأزمة المالية. ويهدف التعميم رقم 165 إلى استئناف استخدام نظام الدفع الوطني، الذي يتكون من نظام التسوية والمقاصة في الوقت الحقيقي، وبالتالي تقليل حجم الاقتصاد النقدي. ولكن، أشار التقرير إلى أن هذه الخطوة تحمل مخاطر مهمة، بحيث أنها تخلق فعلياً نظاماً مصرفياً موازياً للودائع الدولارية الجديدة، ما يتجاهل الودائع المحتجزة بالعملات الأجنبية قبل الأزمة. علاوة على ذلك، فإن التعميم 165 يفرض مخاطر لمكافحة غسل الأموال، بحيث يمكن توجيه الأموال غير المشروعة عبر النظام المالي.

وأفاد التقرير بأن لبنان، وعلى الرغم من المخاطر التي يشكلها الاقتصاد النقدي الكبير، تجنّب حتى الآن، وضعه على القائمة الرمادية من مجموعة العمل المالي الدولية .(FATF) ولكن، أصبح واضحاً أن التعميم 165 محدود الأثر وسط فقدان كامل للثقة في القطاع المصرفي المتعثر.

الخطر الرمادي

إذاً، لا يزال لبنان خارج القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية، غير أنّه يحتاج إلى بذل المزيد من الجهود والتعزيز في العديد من المجالات أبرزها تحديد المخاطر، التعاون الدولي، وتشديد الرقابة على القطاع غير المالي وغيرها. وبالتالي، وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها المصرف المركزي لضبط الاستقرار النقدي وفرض رقابته على التداولات المالية ومصادرها، فإن خطر إدراج لبنان على “اللائحة الرمادية” يبقى قائماً خلال الأشهر المقبلة في حال عدم الالتزام بتنفيذ الاجراءات التصحيحية المطلوبة بغية تعزيز فعالية منظومة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب. فهل سيسعى لبنان- الغارق في أزماته المالية والمصرفية وتوسّع اقتصاد النقد الورقي- إلى تحسين وضعه في الـ 2024 للنجاة من الخطر الرمادي المُحدق به؟

شارك المقال