لبنان: اقتصاد بلا نمو ومستقبل ضبابي

سوليكا علاء الدين

في تقريره الاقتصادي الصادر تحت عنوان “هل بدأ النهوض من القاع، مع احتمال انعطافة اقتصادية؟”، خلص “بنك عودة” إلى أن العام 2023 كان عاماً منعدم النمو، بسبب تأثره السلبي بالحرب الاسرائيلية في الربع الأخير من العام. وبحسب التقرير، فقد شهد الاقتصاد اللبناني تحسناً نسبياً قبيل الحرب، مدفوعاً بأداء القطاع السياحي الذي كان محركاً للنمو الاقتصادي في الأشهر التسعة الأولى من العام. ومع ذلك، تأثر القطاع سلباً بالحرب، ما أدى إلى انخفاض عدد السياح والمغتربين اللبنانيين الوافدين إلى لبنان بنسبة 18 في المئة في الفصل الأخير من العام 2023 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق. كما شهدت مؤشرات القطاع الحقيقي أداءً متبايناً خلال العام نفسه، كانعكاس لأداء الاقتصاد عموماً.

استقرار رغم التضخم

التقرير تناول الأوضاع النقدية والمصرفية والمالية، مسلطًا الضوء على أبرز المستجدات والتطورات التي شهدتها خلال العام 2023، ومقدّماً تصوّراً للسيناريوهات المتوقعة للعام 2024. فعلى صعيد الوضع النقدي، حافظت الليرة اللبنانية على استقرارٍ نسبي منذ آذار الفائت، إلا أن التضخم ظل يفوق الـ100 في المئة، بحيث ظهر تضخم في الدولار الأميركي بصورة متزامنة مع استقرار العملة. ومن المتوقع أن يكون التضخم قد بلغ 204 في المئة في كانون الأول من العام 2023 بالمقارنة مع الشهر نفسه من العام السابق، ما يعني أن التضخم التراكمي قد وصل إلى نحو 5000 في المئة منذ اندلاع الأزمة في تشرين الأول 2019. وكان اللافت خلال الأشهر القليلة الماضية ظهور تضخم متراكم بالدولار الأميركي بنسبة 47 في المئة في العام 2023. وفي ظل السياسة النقدية المتبعة، يسعى مصرف لبنان جاهداً الى الحفاظ على ما تبقى من احتياطاته من النقد الأجنبي، والتي ارتفعت بمقدار 0.7 مليار دولار منذ نهاية تموز الفائت مع بدء لبنان حقبة مالية ونقدية جديدة تحت مظلة الادارة الجديدة لـ “المركزي”.

وبحسب التفاصيل، فقد ارتفع سعر الصرف في السوق الموازية من 43000 ليرة لبنانية في بداية العام إلى 145000 ليرة في نهاية آذار، قبل أن يستقر في محيط الـ90000 ليرة منذ بداية نيسان حتى نهاية العام 2023. ويأتي هذا الاستقرار على الرغم من استمرار الفراغ الدستوري، وغياب الارادة السياسية لتنفيذ الاصلاحات، وتزايد التوترات الجيوسياسية. ويعكس هذا الاستقرار بنوع خاص: الدولرة الشاملة للاقتصاد، إلغاء منصّة “صيرفة” وسياسة مصرف لبنان الجديدة القاضية بالامتناع عن تمويل الحكومة، خصوصاً بالعملات الأجنبية، وتدفّقات نقدية مطّردة بالعملات الأجنبية مع بلوغ تحويلات العاملين في الخارج نحو 6.4 مليارات دولار في العام 2023 (تمثّل 27.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي) حسب تقديرات البنك الدولي، بالاضافة إلى موسم سياحي قوي خلال الصيف وفترات العطل.

ومع ذلك، فقد اتسم العام 2023 بانخفاض حجم النقد المتداول بصورة كبيرة، بحيث تراجع من 80.1 ألف مليار ليرة لبنانية في نهاية العام 2022 إلى 58.1 ألف مليار ليرة في نهاية العام 2023، أي بنحو 22.1 ألف مليار ليرة. وعلى الرغم من هذا الانخفاض، إلا أن الارتباط بين سعر العملات الأجنبية في السوق السوداء وحجم النقد المتداول ظل ضعيفاً خلال العام 2023، كما يتّضح من مُعامل التحديد البالغ 13 في المئة بين هذين المتغيرين. وتوازياً، ظلت احتياطيات القطع السائلة لدى مصرف لبنان آخذة في الارتفاع منذ تولّي النائب الأول لحاكم البنك المركزي وسيم منصوري منصب الحاكم بالإنابة في 31 تموز 2023، بحيث ارتفعت بمقدار 748 مليون دولار لتصل إلى 9.321 مليارات دولار في نهاية العام.

التقرير أشار إلى أنّ مصرف لبنان، وفي إطار الجهود المتواصلة لتعزيز الشفافية والحوكمة في الاقتصاد النقدي الناشئ، يقوم حالياً بإعداد منصة “بلومبرغ” الالكترونية، والتي من المتوقع أن يتم إطلاقها في القريب العاجل. وتحدد تعاميم مصرف لبنان المقبلة إطار هذه المنصة الجديدة. كما سينتقل المصرف تدريجياً إلى نظام الصرف العائم الموجه، مع الحفاظ في الوقت نفسه على ما تبقى من احتياطيات النقد الأجنبي لديه.

ارتفاعات وتحديات

أما في سياق القطاع المالي، فأقرّ مجلس الوزراء مشروع موازنة العام 2024 في موعدها الدستوري، وذلك بعد أن تلقّاه من وزارة المالية في بداية أيلول 2023. وقد تمت إحالة مشروع الموازنة على مجلس النواب قبل 15 يوماً من انعقاد دورته التشريعية، وذلك استناداً إلى المادة 86 من الدستور، التي تجيز إصدار الموازنة بمرسوم بدلاً من القانون إذا لم يتمكن مجلس النواب من إقرارها في الوقت المحدد لدراستها ومناقشتها. وتم تقدير نفقات الموازنة بنحو 295.1 ألف مليار ليرة (ما يعادل 3.3 مليارات دولار)، مقابل إيرادات بقيمة 277.9 ألف مليار ليرة (ما يعادل 3.1 مليارات دولار)، ما أدى إلى عجز مالي بنحو 17.2 ألف مليار ليرة (ما يعادل 191 مليون دولار).

وفي ما يتعلّق بقطاع المصارف، تعتمد المصارف حالياً ثلاث ميزانيات منفصلة: ميزانية بالليرة اللبنانية، وميزانية بالدولار المحلي، وميزانية بالدولار النقدي. وقد شهدت الأشهر القليلة الماضية ارتفاعاً ملحوظاً في الودائع بالدولار النقدي، بحيث وصلت إلى نحو 3.5 مليارات دولار اليوم، مقارنة بنحو 2 مليار دولار قبل عام. ومن أجل عودة النشاط المصرفي إلى طبيعته وتعزيز الظروف التشغيلية، أشار التقرير إلى ضرورة تبني السلطات خطة تعافٍ شاملة، والتي من شأنها تقليص الفجوة المالية الناجمة عن الاختلالات التي تسببت بها الدولة ومصرف لبنان عموماً.

من جهتها، شهدت أسواق الرساميل اللبنانية في العام 2023 استمراراً لارتفاع أسعار الأسهم لتواصل بذلك اتجاهها التصاعدي الذي استمر لمدة سنتين متتاليتين، بحيث ارتفع مؤشر الأسعار بنسبة 41.2 في المئة، بعد ارتفاع بنسبة 37.2 في المئة في العام 2022. ويعزى هذا الارتفاع إلى ارتفاع أسعار أسهم “سوليدير”، بالاضافة إلى زيادة حجم التداول بنسبة 32.1 في المئة إلى 581 مليون دولار.

تقلبات وجمود

وبحسب تقرير “بنك عودة”، كان العام 2023 عاماً متقلباً في الأداء الاقتصادي، فقد شهد الفصل الأول منه تدهوراً حاداً في العملة الوطنية، إذ وصل سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى مستوى غير مسبوق هو 145,000 في آذار، بعد أن كان قد بدأ العام عند مستوى 43,000. وقد ترافق ذلك مع تداعيات سلبية كبيرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان عموماً. أما الفصل الثاني من العام فقد شهد تحسّناً نسبياً في أوضاع القطاع الحقيقي، وذلك في ظل الاستقرار النقدي واستقرار العملة، إذ بقي سعر الصرف يتحرك في محيط 90,000. واتسم الفصل الثالث من العام بنهوض ماكرو-اقتصادي نسبي، وذلك نتيجة الأداء الايجابي اللافت للقطاع السياحي، وفي ظل الاستقرار المستمر في سعر الصرف. في ما يخص الفصل الرابع من العام، فقد جاء في خضم المستجدات الأمنية على الحدود اللبنانية الجنوبية إثر اندلاع الصراع بين إسرائيل و”حماس” في 7 تشرين الأول، بحيث تبدّد نسبياً في الخريف معظم المكاسب الاقتصادية التي حققتها مختلف القطاعات خلال فصل الصيف. ومع ذلك، لم تزعزع تداعيات الحرب استقرار الليرة اللبنانية حتى الآن.

وعليه، من المرجح أن يكون العام 2023 قد شهد جموداً اقتصادياً حقيقياً، بحيث من المتوقع أن يكون النمو قد ناهز الصفر، في حين أن النمو الاقتصادي كان إيجابياً بعض الشيء حتى نهاية شهر أيلول. أما أبرز القطاعات التي تأثرت خلال الفصل الأخير من العام فهو القطاع الثالث، أي قطاع التجارة والخدمات، ولا سيما الفنادق والمطاعم، وتأجير السيارات، وقطاع المناسبات والمؤتمرات، إلخ…

2024: ازدهار أو انهيار

أما بالنسبة الى التوقعات للعام 2024، فهي تشير إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة: السيناريو الأول إيجابي ومن المتوقع أن يتحقق بنسبة 25 في المئة. وهو يعتمد على نهاية للحرب المستجدة، انتخاب رئيس جمهورية قريباً، تشكيل حكومة فاعلة وكفوءة، إطلاق عجلة الاصلاحات، التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي والحصول على مساعدات خارجية. في حال تحقق مجمل هذه الفرضيات، توقع التقرير أن تتخطى نسبة النمو الفعلي الـ7 في المئة، وأن ينخفض معدل التضخم، ويستقر سعر الصرف، وتتعزز احتياطيات مصرف لبنان، ويسجل ميزان المدفوعات فائضاً بمقدار 5 مليارات دولار.

في حين أن السيناريو الثاني سلبي ومن المرجح أيضاً أن يتحقق بنسبة 25 في المئة. ويتمحور حول توسع دائرة الصراع على الأراضي اللبنانية، غياب الانتخابات الرئاسية وبالتالي عدم تشكيل الحكومة وانعدام الاصلاح الاقتصادي وعدم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وتوقع التقرير أن يؤدي إلى نسبة نمو سلبية في الناتج المحلي الاجمالي تقارب الـ20 في المئة وارتفاع نسبة التضخم إلى 400 في المئة وانخفاض احتياطيات مصرف لبنان وتسجيل عجز في ميزان المدفوعات قدره ما لا يقل عن 5 مليارات دولار.

أما الـ50 في المئة المتبقية فتعود إلى السيناريو الوسطي الذي يفترض بقاء الصراع محصوراً في الجنوب مع المحافظة على قواعد الاشتباك انما من دون انفراجات سياسية داخلية تؤدي الى الاصلاحات الاقتصادية. في ظل هذا السيناريو الوسطي، قد تناهز نسبة النمو الصفر في المئة مع ارتفاع معدل التضخم إلى 100 في المئة، وانخفاض احتياطيات المركزي إلى أقل من 20 مليار دولار، وتسجيل ميزان المدفوعات شبه توازن.

ونظراً إلى المفارقة الكبيرة بين السيناريوهات الثلاثة، أمل تقرير “بنك عودة” في الختام أن يستقر الوضع الأمني في الجنوب، وأن يترفع السياسيون اللبنانيون عن مصالحهم الآنية، وأن يحدّوا من التجاذبات في ما بينهم، وأن يعزّزوا الأرضية المشتركة، وأن يسلكوا طريق التسوية والاصلاح.

بغض النظر عن السيناريو الذي سيتحقق في العام 2024، يبقى مستقبل الاقتصاد في لبنان رهينة التطورات والأحداث السياسية والأمنية ومدى جدية الالتزام بتنفيذ الاصلاحات الجذرية على مختلف الأصعدة، الاقتصادية والمالية والاجتماعية. فمن دون هذه الاصلاحات، سيستمر الاقتصاد اللبناني في الانزلاق نحو الهاوية ستحرمه من تحقيق التعافي الاقتصادي المنشود.

شارك المقال