تجاوزات قياسية… مناخ مُتطرّف يُلهب الاقتصاد العالمي

سوليكا علاء الدين

أكد تقرير “حالة المناخ العالمي” الصادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن عام 2023 هو العام الأكثر سخونة منذ بدء التسجيل بهامش واضح. وأظهر التقرير أن المتوسط العالمي لدرجة الحرارة القريبة من السطح بلغ 1.45 درجة مئوية (بهامش من عدم اليقين يقل أو يزيد على 0.12 درجة مئوية) فوق خط الأساس في فترة ما قبل الثورة الصناعية، مُوضحاً أن آخر عشر سنوات هي الفترة الأحرّ على الاطلاق.

وكشف التقرير عن تحطيم للأرقام القياسية وعن تجاوزات كبيرة في مستويات غازات الاحتباس الحراري، ودرجات حرارة السطح، وحرارة المحيطات وتحمضها، وارتفاع مستوى سطح البحر، والغطاء الجليدي البحري في المنطقة القطبية الجنوبية، وتقلص مساحات الأنهار الجليدية. وقد أدت هذه التجاوزات إلى موجات الحر والفيضانات والجفاف وحرائق الغابات والأعاصير المدارية المكثفة بسرعة، ما تسبب في البؤس والفوضى، وقلب الحياة اليومية للملايين، وإلحاق خسائر اقتصادية تُقدّر بمليارات الدولارات.

تحذير حراري

في ما يتعلق بغازات الاحتباس الحراري، فقد سجّلت الغازات الرئيسية الثلاثة – ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز – أعلى مستوياتها على الاطلاق في العام 2022. وتشير البيانات في الوقت الفعلي من مواقع محددة إلى ارتفاع مستمر في العام 2023. كما تؤكد المعلومات أنّ مستويات ثاني أكسيد الكربون أعلى بنسبة 50 في المئة عنها في عصر ما قبل الثورة الصناعية، ما يؤدي إلى حبس الحرارة في الغلاف الجوي. وطول فترة بقاء ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ما يعني أن درجات الحرارة ستستمر في الارتفاع لسنوات عديدة قادمة.

وشهد عام 2023 ارتفاعاً غير مسبوق في درجات الحرارة العالمية، حيث بلغ المتوسط العالمي لدرجة الحرارة بالقرب من السطح 1.45 ± 0.12 درجة مئوية أعلى من متوسط فترة ما قبل الثورة الصناعية (1850-1900). ويُعد هذا الارتفاع الأعلى على الاطلاق منذ بدء تسجيل درجات الحرارة قبل 174 عاماً، متجاوزاً بذلك الأرقام القياسية السابقة التي سجلت في عامي 2016 (1.29 ± 0.12 درجة مئوية) و2020 (1.27 ± 0.13 درجة مئوية)، وبذلك، يصبح عام 2023 هو العام الأكثر دفئاً في سجل الرصد.

وفاق متوسط درجة الحرارة العالمية للسنوات العشر 2014-2023 متوسط الفترة 1850-1900 بمقدار 1.20 ± 0.12 درجة مئوية. وعلى الصعيد العالمي، سجلت جميع الأشهر من حزيران إلى كانون الأول درجات حرارة قياسية مرتفعة. وكان شهر أيلول 2023 استثنائياً خصوصاً، بحيث تجاوز الرقم القياسي العالمي السابق لشهر أيلول بهامش كبير (من 0.46 إلى 0.54 درجة مئوية).

وتعود الزيادة الطويلة الأمد في درجات الحرارة العالمية إلى تراكم غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي. وقد أدى التحول من ظروف النينيا إلى النينيو في منتصف العام 2023 إلى تسريع ارتفاع درجات الحرارة من عام 2022 إلى عام 2023. وبلغ المتوسط العالمي لدرجات حرارة سطح البحر مستوى قياسياً مرتفعاً منذ نيسان فصاعداً، مع تحطيم الأرقام القياسية في تموز وآب وأيلول بهامش واسع خصوصاً.

درجات مُقلقة

وفقاً لتحليل موحد للبيانات، بلغ محتوى حرارة المحيطات ذروته في العام 2023. وعكست معدلات الاحترار ارتفاعاً هائلاً، خصوصاً خلال العقدين الماضيين. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاحترار، وهو تغيير لا يمكن إصلاحه على مدى مئات إلى آلاف السنين. وتؤثر الموجات البحرية الأكثر حرارة وتواتراً بصورة سلبية وعميقة على النظم البيئية البحرية والشعاب المرجانية.

وفي العام 2023، ارتفع متوسط التغطية اليومية لموجات الحر البحرية في المحيطات العالمية إلى 32 في المئة، متجاوزاً بصورة كبيرة الرقم القياسي السابق البالغ 23 في المئة في العام 2016. وبحلول نهاية العام 2023، كان معظم المحيطات العالمية بين خطي عرض 20 درجة جنوباً و20 درجة شمالاً يشهد موجة حر منذ أوائل تشرين الثاني.

وفي العام ذاته أيضاً، وصل المتوسط العالمي لارتفاع مستوى سطح البحر إلى أعلى مستوى له على الاطلاق منذ بدء رصده عبر الأقمار الصناعية عام 1993. ويعكس هذا الارتفاع استمرار ارتفاع حرارة المحيطات (التمدد الحراري) وذوبان الأنهار الجليدية والصفائح الجليدية. وشهد العقد الماضي (2014-2023) تسارعاً ملحوظاً في معدل ارتفاع متوسط مستوى سطح البحر العالمي، حيث أصبح أكثر من ضعفي معدله في العقد الأول من رصده عبر الأقمار الصناعية (1993-2002).

وفي شهر شباط من العام 2023، سجّلت مساحة الجليد البحري في القطب الجنوبي أدنى مستوى لها على الاطلاق منذ بدء رصدها عبر الأقمار الصناعية في عام 1979. وظلّت الرقعة عند مستوى منخفض قياسي لبقية العام، من حزيران إلى أوائل تشرين الثاني. وبلغ الحد الأقصى السنوي للرقعة في أيلول 16.96 مليون كيلومتر مربع، أي أقل بحوالي 1.5 مليون كيلومتر مربع من متوسط الفترة 1991-2020، وأقل بمليون كيلومتر مربع من الحد الأقصى القياسي المنخفض السابق. وفي نقطة القطب الشمالي، لم تختلف رقعة الجليد البحري عن مستوياتها المنخفضة المعتادة، بحيث سجّل الحد الأقصى السنوي خامس أقل معدلاته، بينما سجّل الحد الأدنى السنوي سادس أدنى مستوى له منذ بدء رصد البيانات.

أعباء اقتصادية

خلّفت ظواهر الطقس والمناخ المتطرفة عام 2023 آثاراً اجتماعية واقتصادية كارثية على جميع القارات المأهولة. وشملت هذه الظواهر الفيضانات العارمة، والأعاصير المدارية، وموجات الحر والجفاف الشديدة، وحرائق الغابات المدمرة. وضربت العديد من الأعاصير القوية مناطق مختلفة من العالم، تاركةً وراءها خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وتكاليف اقتصادية باهظة الثمن، ناهيك عن موجات نزوح جماعي وتفاقم انعدام الأمن الغذائي الحاد.

كما اجتاحت موجات حرّ قاسية أجزاء واسعة من العالم، خصوصاً جنوب أوروبا وشمال إفريقيا، وبلغت ذروتها في النصف الثاني من شهر تموز. وشهدت كندا أسوأ موسم حرائق غابات في تاريخها، بينما واجهت هاواي حريقاً هو الأكثر فتكاً هذا العام، والأكثر تدميراً في الولايات المتحدة منذ أكثر من قرن، بحيث قُدرت الخسائر الاقتصادية بـ 5.6 مليارات دولار أميركي.

ففي العام 2023، عانت منطقة القرن الافريقي، التي كانت تعاني من جفاف طويل الأمد، من فيضانات كبيرة، خصوصاً في الشهور الأخيرة من العام. واستمر الجفاف الطويل الأمد في شمال غرب إفريقيا، وأجزاء من شبه الجزيرة الأيبيرية، فضلاً عن أجزاء من وسط وجنوب غرب آسيا. وتفاقم الجفاف في أجزاء كثيرة من أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية، ما أدى إلى خسائر في المحاصيل وانخفاض مستويات تخزين المياه في شمال الأرجنتين وأوروغواي.

أمل رغم المخاطر

ضاعفت مخاطر الطقس والمناخ من صعوبة التحديات المتعلقة بالأمن الغذائي ونزوح السكان، وخصوصاً على الفئات الضعيفة. وتسببت هذه المخاطر في موجات نزوح جديدة وطويلة الأمد وثانوية، وزادت من هشاشة العديد من النازحين أصلاً بسبب حالات معقدة متعددة الأسباب من الصراع والعنف.

يُشير التقرير إلى أرقام مُقلقة تُظهر ازدياد عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في العالم بصورة مُفاجئة منذ تفشي جائحة كوفيد-19. فقد ارتفع العدد من 149 مليون شخص قبل الجائحة إلى 333 مليون شخص في العام 2023، وذلك في 78 دولة رصدها برنامج الأغذية العالمي. وعلى الرغم من أن مستويات الجوع العالمية لم تتغير بين العامين 2021 و2022، إلا أنّها لا تزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الجائحة. ففي العام 2022، عانى 9.2 في المئة من سكان العالم (735.1 مليون شخص) من نقص التغذية. وتُفاقم هذه الأسباب من تأثير التغيّر المناخي وظواهر الطقس المتطرفة على الأمن الغذائي العالمي. وتعد النزاعات التي طال أمدها، والانكماش الاقتصادي، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، والتي تفاقمت بسبب ارتفاع تكاليف المدخلات الزراعية الناجمة عن الصراع المستمر والواسع النطاق في جميع أنحاء العالم، هي السبب الجذري لارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي العالمي. وتُفاقم مخاطر تغير المناخ وظواهر الطقس القاسية من سوء هذا الوضع بصورة كبيرة.

ومع ذلك، هناك بصيص أمل. إذ تصدر توليد الطاقة المتجددة، بدعمٍ من القوى الدينامية للإشعاع الشمسي والرياح ودورة المياه، واجهة العمل المناخي، وذلكَ بفضلِ قدرته على تحقيق أهدافِ إزالة الكربون. إذ يشهد جميع أنحاءِ العالم، تحولاً هائلاً في مجال الطاقة، بحيث ارتفعت إضافات الطاقة المتجددة بنسبة 50 في المئة تقريباً في العام 2023 مقارنة بالعام 2022، ليصل إجماليّها إلى 510 جيغا واط. ويُعد هذا النمو أعلى معدل تم تسجيله في العقدين الماضيين، ما يُشير إلى إمكان تحقيق هدف الطاقة النظيفة الذي حدّدته الدورة الثامنة والعشرون لمؤتمر الأطراف، وهو زيادة قدرة الطاقة المتجددة بمقدار ثلاث مرات على مستوى العالم لتصل إلى 11000 جيغا واط بحلول العام 2030.

فجوة التمويل

في عامي 2022-2021، ارتفعت تدفقات التمويل العالمية المتعلقة بالمناخ بصورة ملحوظة، بحيث بلغت ما يقرب من 1.3 تريليون دولار أميركي، أي ما يعادل ضعف مستويات عامي 2020-2019. ولكن، على الرغم من ذلك، فان تدفقات تمويل المناخ المتعقبة لا تُمثّل سوى 1 في المئة تقريباً من الناتج المحلي الاجمالي العالمي، وفقاً لمبادرة السياسات المناخية.

ولا تزال هناك فجوة كبيرة في تمويل المناخ، بحيث يتطلب مسار 1.5 درجة مئوية زيادة كبيرة في الاستثمارات السنوية بأكثر من ستة أضعاف. فبحلول العام 2030، يجب أن تصل هذه الاستثمارات إلى حوالي 9 تريليونات دولار أميركي، ثم تزيد إلى 10 تريليونات دولار أخرى بحلول العام 2050. وتُقدر التكلفة الإجمالية للتقاعس عن العمل خلال الفترة من 2025 إلى 2100 بنحو 1266 تريليون دولار أميركي. ويُمثّل هذا الرقم الفرق بين الخسائر في ظل سيناريو العمل كالمعتاد والخسائر في مسار 1.5 درجة مئوية. ولكن، من المرجح أن يكون هذا الرقم أقل من الواقع بصورة كبيرة.

وعلى الرغم من بلوغ تمويل التكيف أعلى مستوياته بمبلغ 63 مليار دولار أميركي في عامي 2022-2021، إلا أنه لا يزال غير كافٍ. وتُشير التقديرات إلى أن البلدان النامية وحدها تحتاج إلى 212 مليار دولار أميركي سنوياً حتى العام 2030، ما يعني أن الفجوة العالمية في تمويل التكيف آخذة في الاتساع؛ ليُشكل نقص تمويل التكيف تحدياً كبيراً لجهود التكيف مع تغير المناخ، خصوصاً بالنسبة الى البلدان الأكثر عرضة للخطر.

شارك المقال