اقتصاد الفضاء: فرص وثروات لا حصر لها

سوليكا علاء الدين

يخطو اقتصاد الفضاء خطوات واثقة نحو التقدم والازدهار مدفوعاً بالثورة التكنولوجية الهائلة والابتكارات المتنامية التي يشهدها العالم. ولم يعد هذا المجال حكراً على قلّة محدودة، بل تحوّل إلى عالم رحب يزخر بإمكانات وطاقات لا حصر لها، إذ يُبشّر بمستقبل واعد من خلال مساهمته في تنمية العديد من القطاعات الحيوية وتقديمه حلولاً مبتكرة للتصدي للعديد من المخاطر التي تواجه البشرية.

تُقدم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تعريفاً شاملاً لاقتصاد الفضاء، وتصفه بأنه النطاق الكامل للأنشطة واستخدام الموارد التي تخلق قيمة وتعود بالفائدة على حياة الإنسان، وذلك في سياق استكشاف الفضاء، ودراسته والبحث فيه، ومن ثم فهمه وإدارته واستخدامه للمنفعة.

فرصة اقتصادية

تحت عنوان “الفضاء: فرص بقيمة 1.8 تريليون دولار للنمو الاقتصادي العالمي”، توقّع تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي بالتعاون مع شركة “ماكنزي وشركائه” أن يشهد هذا القطاع نمواً ملحوظاً خلال السنوات القادمة، ليُصبح محركاً رئيسياً للاقتصاد العالمي. وتشير التقديرات إلى أنّ القطاع سيحقّق نمواً كبيراً ليصل حجمه إلى 1.8 تريليون دولار بحلول العام 2035، مقارنة بـ 630 مليار دولار في العام 2023. ويمثل هذا النمو اللافت معدل نمو سنوياً متوسطاً يبلغ 9 في المئة، وهو أعلى بكثير من معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي العالمي. ومن المرجح أن يعتمد النمو بصورة كبيرة على التقنيات الفضائية والممكنة مثل الاتصالات، وتحديد المواقع والملاحة والتوقيت، ومراقبة الأرض.

كما يقدّم التقرير نظرة مستقبلية لاقتصاد الفضاء، من خلال كشفه عن مساهمة خمسة قطاعات رئيسية في أكثر من 60 في المئة من النمو المتوقع في هذا القطاع بحلول العام 2035 وهي سلسلة التوريد والنقل، والزراعة والأغذية، والدفاع، وتجارة التجزئة ونمط الحياة، والاتصالات الرقمية. وإلى جانب هذه القطاعات الرائدة، ستشهد تسع صناعات أخرى إيرادات مرتبطة بالفضاء لتصل إلى عدة مليارات من الدولارات، الأمر الذي سيُتيح فرصاً استثنائية للاعبين التقليديين وغير التقليديين على حد سواء للمشاركة في هذا المجال.

وعلاوة على ذلك، سيُصبح الفضاء أداةً حاسمةً لمواجهة التحديات العالمية، بدءاً من الإنذار المبكر بالكوارث ومراقبة تغيرات المناخ، وصولاً إلى تحسين الاستجابة الإنسانية وتحقيق الازدهار على نطاق أوسع. كما أنّ التعاون بين مختلف الجهات الفاعلة، الحكومية منها والخاصة، سيكون ضرورياً لضمان توظيف إمكانات الفضاء بشصورة فاعلة لمعالجة هذه التحديات، وفق التقرير.

سباق الفضاء

على الرغم من الجدل الشائك حول تطبيقات الفضاء وتأثيراتها، لا شك في أن هذا المجال يقف على أعتاب ثورة ضخمة خلال العقد القادم. ففي ظل ازدياد استثمارات القطاع العام، تتوسّع قائمة الدول المساهمة في مبادرات الفضاء بصورة ملحوظة، بحيث تُقدّم دول مثل اليابان وبيرو والمملكة العربية السعودية وتايلاند مساهمات جوهرية في مجال الفضاء. وتُعدّ الهند مثالاً رائداً على هذا التقدم، فقد نجحت في هبوط مركبة فضائية بالقرب من القطب الجنوبي للقمر، ما يُمثل إنجازاً تاريخياً يُمهد الطريق لمزيد من الاكتشافات والابتكارات في مجال الفضاء.

وفي الوقت ذاته، تُواصل استثمارات القطاع الخاص في هذا القطاع دفع عجلة الابتكار وفتح آفاق جديدة لمجالات واعدة، مثل فحص الأقمار الصناعية في مدارها، وتقديم خدمات الصيانة الفضائية، وإمكان إنشاء محطات فضائية ممولة تجارياً. كما تساهم الشراكات القوية والمتزايدة بين القطاع الخاص غير الفضائي والجهات الفاعلة في تسريع وتيرة التقدم في هذا المجال بصورة فاعلة.

آفاق جديدة

التقرير سلّط الضوء على أربعة دوافع أساسية وراء توسع نطاق استخدامات الفضاء في مختلف جوانب الحياة. يتمثّل الدافع الأول في تخفيض تكاليف الإطلاق، بحيث شهد عدد الأقمار الصناعية المطلقة سنوياً نمواً هائلاً خلال الفترة من 2019 إلى 2023، مع تسجيل معدل الزيادة السنوي المتراكم أكثر من 50 في المئة. وفي المقابل، انخفضت تكاليف الإطلاق بصورة واضحة خلال الأعوام العشرين الماضية، بحيث وصلت نسبة الانخفاض إلى عشرة أضعاف، ما يتيح إمكان زيادة عمليات الإطلاق بصورة كبيرة. ومن المتوقع أن يشهد سعر البيانات، وهو العنصر الأساسي للاتصالات، انخفاضاً بنسبة 10 في المئة بحلول العام 2035، مع توقعات بزيادة الطلب بنسبة 60 في المئة.

ويتمحور الدافع الثاني حول الابتكار التجاري المتواصل في مجال الفضاء، الذي يُتيح فتح آفاق واسعة لإنجاز المزيد باستخدام أقمار صناعية أصغر حجماً. فعلى سبيل المثال، بات رصد الأرض من الفضاء يُمكّن من تحديد الأجسام بدقة فائقة تصل إلى 15 سنتيمتراً. كما أن هذه الصور باتت متوافرة بأسعار معقولة وذلك بفضل تسجيل تكلفة البكسل الواحد انخفاضاً مستمراً.

ويُعدّ تنويع الاستثمارات والتطبيقات الدافع الثالث وراء الانتشار المتزايد لتطبيقات الفضاء. فقد أظهرت مجموعة واسعة من المستثمرين اهتماماً متزايداً بقطاع الفضاء، مع بلوغ استثمارات القطاع الخاص مستويات قياسية غير مسبوقة، بحيث تجاوزت 70 مليار دولار في عامي 2021 و2022. وبصورة موازية، تشهد الأنشطة والتطبيقات المرتبطة بالفضاء تنوعاً ملحوظاً، بحيث لم تعد تطبيقات مثل السياحة الفضائية تُعتبر حلماً بعيد المنال.

أما الدافع الرابع والأخير فيرتبط بالحماس والفهم الثقافي. فعلى الرغم من مرور نصف قرن على آخر رحلة مأهولة إلى القمر، لا يزال الفضاء يثير شغفاً واهتماماً واسعين في جميع أنحاء العالم، ويتصدر عناوين الأخبار يومياً. وتُظهر الإثارة والفضول المتزايدان تجاه أحدث التطورات في مجال الفضاء أن قادة الحكومات ورجال الأعمال يُدركون بصورة متزايدة الإمكانات الهائلة التي يقدمها الفضاء للمستقبل.

اغتنام الفرص

يُحدث قطاع الفضاء ثورة عالمية حقيقية، الأمر الذي يتطلّب من الشركات القائمة والناشئة على حد سواء تكييف استراتيجياتها للافادة من فوائده الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية الهائلة. وتُتيح هذه الثورة فرصة ذهبية للقطاعين العام والخاص لترسيخ مكانتهما كروّاد في اقتصاد الفضاء المزدهر، وذلك من خلال الافادة من الامكانات الواعدة التي يوفرها الفضاء، ما يُمهد الطريق لإطلاق العنان لفوائده المستدامة على المدى الطويل.

كما يلعب الابتكار التكنولوجي والتنافس المالي أدواراً محورية في تحديد مسار اقتصاد الفضاء، خصوصاً مع التوقعات المتفائلة بأن يصل حجمه إلى 2.3 تريليون دولار بحلول العام 2035 وذلك بفضل تحسين الوصول إلى البيانات الفضائية وانخفاض تكاليف الدخول إلى الفضاء. مقابل ذلك، قد يؤدي انقطاع الوصول إلى الفضاء، بالاضافة إلى التطورات التكنولوجية الأرضية التي تُقلّل من الاعتماد على التقنيات الفضائية، إلى تكبد خسائر اقتصادية تقدّر بـ 1.4 تريليون دولار بحلول العام ذاته.

ومع ازدياد اهتمام الدول بتعزيز قدراتها الفضائية، يشهد عدد من وكالات الفضاء نمواً لافتاً، بحيث ارتفع عددها من 40 وكالة في عام 2000 إلى أكثر من 75 وكالة اليوم. ونتيجةً لذلك، من المتوقع أن يزداد الدعم الحكومي للبرامج الفضائية بنسبة 5 في المئة بحلول العام 2035، لا سيما وأنّ الفضاء يمنح فرصاً استثنائية لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز النظام الاقتصادي للدول من خلال خلق فرص عمل جديدة وتعزيز الابتكار وتطوير الصناعات التكنولوجية المتقدمة؛ وبالتالي تحسين جودة الحياة وتأمين مستقبل أفضل للبشرية.

شارك المقال