يعاني المواطن اللبناني الى اليوم، من تبعات أزمة 2019، التي جعلت الاقتصاد في حالة “عجز” و”انكماش”، وحلّقت بالأسعار، ما أدى إلى بلوغ معدلات التضخم مستويات قياسية وصلت إلى 215 في المئة لتضع لبنان في المرتبة الثانية عالمياً بعد فنزويلا.
ويرتبط ارتفاع معدل التضخم في العالم عموماً، بعوامل عديدة منها مثلاً: زيادة الأجور، زيادة أسعار المواد الخام، زيادة الضرائب، انخفاض الانتاج وزيادة المعروض النقدي. ومن المؤسف أن جميع هذه الأسباب موجودة في وقت واحد في لبنان مصحوبة بسببين رئيسيين لبلوغ التضخم مستويات قياسية، ألا وهما التدهور الكبير في العملة والدولرة شبه الكاملة.
وكان سبق ثبات سعر الصرف الحالي عند حدود 89500 ليرة مقابل الدولار، تفاوتٌ كبير في سعر الصرف بين ارتفاع كبير إلى ملامسة 150 ألف ليرة عام 2023 وانخفاض تدريجي حتى ثباته حالياً.
يضاف إلى العاملين المشار إليهما بالطبع، رفع سعر الدولار الجمركي من 1500 ليرة الى 15 ألفاً نهاية عام 2022، ومن 15 ألفاً الى 45 ألفاً في شباط 2023، ثم 60 ألفاً في نيسان 2023، ليصل الى 90 ألفاً في أيار من العام نفسه؛ ناهيك عن رفع الرسوم والضرائب بموجب موازنة عام 2024 والتي فرضتها الحكومة من أجل تغطية النفقات التشغيلية للقطاع العام، ورفع قيمة عقود الايجار الجديدة، وجميعها عوامل تؤدي الى زيادة التضخم.
كما ارتفعت الكتلة النقدية في التداول بوتيرة سريعة منذ العام 2019 لتغطية سحوبات المودعين من ودائعهم بالدولار وفقاً لتعميم مصرف لبنان الرقم 151.
وعلى صعيد العوامل الخارجية، أدى ارتفاع معدل التضخم العالمي بفعل “كوفيد 19” الذي أثّر على سلاسل الإمداد، ثم الحرب بين روسيا وأوكرانيا والحرب في غزة، إلى ارتفاع أسعار المواد الخام ما أثر على جميع البلدان بما في ذلك لبنان، الذي يعتمد على الاستيراد بنسبة 80 في المئة لتأمين حاجاته.
بالأرقام
في العام 2023، بلغ متوسط معدل التضخم في لبنان 222.42 في المئة، وظل في خانة العشرات للعام الثالث على التوالي.
لكن معدل التضخم السنوي هذا راح يتباطأ هذا العام، فاعتباراً من شباط، سجل تراجعات كبيرة، إلى أن انخفض إلى 35.37 في المئة في تموز 2024 (من 41.78 في المئة في حزيران 2024) مسجلاً أدنى مستوى له منذ آذار 2020، وفقاً لإدارة الاحصاء المركزي.
وجاء الانخفاض نتيجة زيادة معدلات الدولرة من الشركات واستقرار سعر الصرف خصوصاً منذ آب 2023. وفي الوقت نفسه، يهدد استمرار تصاعد التوترات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط وتأثيرها على حركة الشحن البحري في البحر الأحمر بتعطيل سلاسل التوريد، ما سيزيد من تكاليف الشحن، وبالتالي يؤدي إلى زيادة التضخم.
وشرح الخبير الاقتصادي أحمد قاسم لـ”لبنان الكبير” أن “للتضخم مقياسين، فبالاضافة الى مؤشر أسعار المستهلك، أي ما يدفعه المستهلكون مقابل السلع التي يشترونها، هناك مؤشر النفقات كنفقات الكهرباء أو الخدمات الصحية أو المحروقات وغيرها. ويتم قياس التضخم عبر مقارنة ما يشتريه المبلغ نفسه مع الوقت، فاذا لم يعد كافياً لشراء السلعة أو الخدمة نفسها، نكون أمام ارتفاع في نسبة التضخم”.
ويرجع سبب انخفاض التضخم، في شباط وآذار تحديداً، الى انخفاض سعر صرف الدولار في السوق الموازية تدريجياً، منذ نيسان 2023، وصولاً الى مستواه الحالي، بعد أن سجل 107 آلاف ليرة للدولار في نهاية آذار 2023. وبالتالي بات سعر صرف الدولار اليوم يوازي نحو 83 في المئة من سعره السابق قبل سنة واحدة. كما بات سعر الصرف غير مؤثر على أسعار السلع المستوردة من الخارج على مدار السنة الماضية. وهكذا حقق مؤشر أسعار الاستهلاك انخفاضاً.
وأكّد قاسم أن “التضخم انخفض عن مستوى 100 في المئة الذي بلغه في السنوات السابقة، وهو ليس بفعل تدخل الحكومة أو المصرف المركزي، بل يعود الى اعتماد الشركات والمؤسسات وحتى المحال في الأحياء الصغيرة التسعير بالدولار”، لافتاً الى أن “ثبات سعر صرف الدولار عند 89500 ليرة، واعتماده كعملة أساسية وليس عملة بديلة، ساهما في خفض التضخم”.
وأوضح أن “مؤشر الاستهلاك ارتفع بنسبة 35 في المئة بين تموز 2023 وتموز 2024، على الرغم من ثبات سعر صرف الدولار بعد تسلم حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، ومن دولرة الأسعار أيضاً، لكن هذا الموضوع مرتبط بالتطورات الاقليمية والحروب إن كان بين أوكرانيا وروسيا، أو حرب غزة وقطع الامدادات، وحرب البحر الأحمر، فالدول في فترات الحروب تحاول المحافظة على السلع الأساسية لديها خوفاً من حرب عالمية، ولبنان يستورد 80 في المئة من احتياجاته، وتحفُّظ الدول عن تصدير السلع يؤدي الى ارتفاع أسعارها”.
وتشير الأرقام الى ارتفاع متتالٍ في مؤشر أسعار الاستهلاك، وإن بنسب ضئيلة. الا أنها تؤدي، في نهاية المطاف، الى ارتفاع الأسعار، وبالتالي فإن معدل التضخم متجه نحو الارتفاع، وفق قاسم. وخلاصة القول إن الأسعار ما زالت ترتفع، لكن بوتيرة أقل، مع تحييد عامل تدهور قيمة الليرة.
وعن كيفية معالجة التضخم، رأى قاسم أن “محاربة الفساد هي الأهم لإعادة الاستقرار، عبر وضع الشخص المناسب في المكان المناسب لتخطي الواقع الاقتصادي وهنالك اجراءات كثيرة يمكن اتخاذها كرفع الفوائد على القروض لتخفيف الاقتراض وبالتالي سحب السيولة الزائدة من السوق ولجم التضخم، ورفع الضرائب خصوصاً على الكماليات”، مشدداً على دور الدولة في “حث المواطنين على الادخار”.
الوضع الاقتصادي متصدّع الهيكل من كل جوانبه، يترقب الضربة المقبلة سواء أمنية، سياسية أو مالية، مع الأمل في ألا تكون قاضية، علماً أن علاجه بين أيدي من يمسكون زمام الأمور في الدولة، ولا سيما الحكومة، التي لا تزال شكليّة عاجزة حتى عن تصريف الأعمال، فما بالنا بالقيام بها؟