عهد الهرطقات الدستورية يُسقط القلعة الأخيرة… القضاء

لبنان الكبير

لا يبدو أن الاجتهادات الدستورية ستتمحور حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال في حال الشغور الرئاسي وحسب، بحيث أن المؤشرات والتصريحات النارية والتهديد والوعيد والاجراءات تدل على أن فوضى الفذلكات والبدع والهرطقات القانونية ستستهدف العدالة في مختلف المؤسسات والقطاعات والمرافق لتصيب قلب القضاء الذي طوّقته التدخلات السياسية من كل الاتجاهات وكبّلت يديه حتى أن كثيرين باتوا على قناعة بأننا نعيش في زمن شريعة الغاب وليس في دولة القانون.

وفي وقت لا تزال الملفات المعيشية متجهة الى مزيد من التأزم مع استمرار اضراب موظفي “أوجيرو” وتضرر شبكات الاتصال والانترنت وارتفاع سعر صرف الدولار وما يرافقه من ارتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية والمحروقات، أشعلت قضية تعيين القاضي الرديف للنظر في تحقيقات انفجار المرفأ الى حين البت بكف يد المحقق العدلي طارق البيطار، ردود فعل نيابية ودستورية وشعبية على اعتبار أنها عملية إستهداف للعدالة في قضية جريمة العصر.

وبعد أن وافق مجلس القضاء الأعلى على مبدأ تعيين قاضي تحقيق رديف في ملف انفجار المرفأ، سيقترح وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري اسم القاضي تمهيداً لابداء مجلس القضاء رأيه، على أن تقتصر مهمة القاضي الرديف على بت طلبات التخلية وحسب.

وأكد أحد النواب أن المحقق الرديف سابقة وهرطقة قانونية، اذ كيف يمكن لقاضيين أن يتابعا الملف نفسه بعد أن تمت عرقلة مهمة القاضي البيطار. القضاء اللبناني مسيّس، والسياسة تضع العصي أمام عربة العدالة، وكل ما يحصل اليوم في الملف نتيجة التدخلات السياسية. هل يجوز بعد سنتين من التفجير أن يعطل القضاء بهذه الطريقة؟

في حين اعتبر مصدر قضائي في حديث لـ “لبنان الكبير” أن شريعة الغاب تسود محل دولة القانون، ولا يجوز أن يتعين قاض رديف لأن هذا التدبير غير قانوني على الرغم من أن البعض يبررونه. القراءة الصحيحة للنص لا تسمح أن يتعين قاض رديف عندما يكون هناك محقق عدلي في قضية معينة. ثم كيف يمكن لمرتكبي “العهر” أن ينتصروا على مطبقي القانون؟ ان كانت هناك نوايا صافية لاستكمال التحقيق في انفجار المرفأ، فذلك يتطلب الامضاء على التشكيلات الجزئية التي وقع عليها وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، لكنها وضعت في جارور وزير المالية الذي اخترع قضية ميثاقية لا تركب على قوس قزح، وهذا ليس مسار القضاء اللبناني. فُتح هذا الباب أي تعيين المحقق الرديف بحجج هزيلة، والأنكى أن البعض يفسر ويجتهد في هذا الاطار وليست لديه أي خلفية قانونية. انها هرطقات دستورية بهدف عرقلة التحقيق. أهالي الضحايا كما أهالي الموقوفين يريدون أكل العنب، لكن كيف يوافق مجلس القضاء الأعلى على تعيين قاض رديف؟ أعتقد أن هذا التعيين غير القانوني أتى نتيجة ضغط هائل وليس نتيجة قراءة سليمة لأحكام القانون. القاضي البديل غريب عن الملف، ومهمته البت بإخلاء السبيل الا أن من يعرف كل شاردة وواردة في الملف هو قاضي التحقيق العدلي. وكان الأحرى بالأهالي أن يتجهوا نحو معطلي استكمال مهام القاضي البيطار، ومعرفة أسباب التعطيل وليس تعيين قاض رديف يلخبط استراتيجية التحقيق التي يتبعها المحقق العدلي. القضاء يقوم بواجباته، ويجري تشكيلات كي يستأنف القاضي البيطار تحقيقاته، لكنها تعرقلت في وزارة المالية لحجج واهية. ولا نستبعد أن يكون هذا الاجراء أو هذه البدعة تهدف الى حشر القاضي البيطار ودفعه الى التنحي عن مهامه خصوصاً أنه يعرّض نفسه للخطر ليكشف الحقيقة في قضية المرفأ. واذا كانت الدولة كلها لا تريد الحقيقة، فربما يتنازل عن الملف. كما أن تعيين قاض رديف اهانة شخصية للقاضي البيطار. انه تحوير للقانون في دولة شريعة الغاب.

وفي هذا السياق، نفذ أهالي ضحايا المرفأ وقفة أمام قصر العدل منعاً لتخريب التحقيق بعد تعيين قاض رديف للمحقق البيطار.

وعلى المقلب السياسي، يسود الجمود الكامل وكأن الاستحقاقين الرئاسي والحكومي دخلا في مرحلة الكوما، حتى أن أحد السياسيين استبعد إعادة انعاش الملف الحكومي أقله خلال الأيام المقبلة في ظل جولات المبارزة الأخيرة والتصاريح التي أظهرت التموضعات السياسية، اذ يتحدث البعض عن نشوء جبهات واضحة بين الأفرقاء خصوصاً بين “التيار الوطني الحرّ” الذي يقابله جبهة نبيه بري – نجيب ميقاتي – وليد جنبلاط، ويتفاعل معها سمير جعجع قبل أقل من شهرين على نهاية ولاية العهد الحالي وسط معلومات عن أن “حزب الله” يسعى مع مختلف القوى الى تهدئة الأجواء، وتنظيم اللعبة السياسية كي لا تنجر الأمور الى مستوى خطير بحيث يصبح الجميع عاجزاً عن الاحتواء، لاسيما أن الاحتقان في أوجه كما أن الأزمة المعيشية والمالية حوّلت الشارع الى بركان صامت قد ينفجر في أي لحظة. لكن نواباً من مختلف الكتل، أكدوا لـ “لبنان الكبير” أن ليس هناك من جبهة والفكرة غير مطروحة أساساً. ثم ممن تتألف هذه الجبهة وضد من؟ كلمة جبهة لا تعبّر عن حقيقة الوضع، لكن هناك تشاور وزيارات متبادلة بين الأفرقاء، وهذا أمر طبيعي في الظروف العادية، فكيف اذا كنا في ظروف صعبة كالتي نعيشها اليوم؟ الوقت ليس مناسباً لفتح الجبهات انما المطلوب الهدوء والاتزان وعدم ادخال البلد في الفراغ والحد من شهوة السلطة وانتخاب رئيس للجمهورية يرتاح له الداخل والخارج وتكون لديه خطة انقاذية اقتصادية. ودعوا الى تحسس عمق الأزمة والتفتيش عن المساحات والقواسم المشتركة أقله في ما يتعلق بالملفات الاصلاحية. وعلى الجميع تحمل مسؤولياتهم واتخاذ المواقف الوطنية الجامعة لانقاذ ما تبقى من بلد.

ولفت أحد المحللين السياسيين الى أن ليس هناك من جبهة بالمعنى الفعلي للكلمة، انما هناك تقاطعات في بعض المواقف مع العلم أن الاصطفافات ليست جديدة. البلد في مرحلة الوقت المستقطع، وكل القوى السياسية في حالة ترقب وضياع لأن الأزمة كبيرة ومتفاقمة ومن غير الواضح ما هي آفاقها ومداها في ظل مداهمة الاستحقاق الرئاسي. الكل ينتظر التسوية الخارجية ان كانت ستأتي عن طريق الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين أو عن طريق المفاوضات النووية. وبالتالي، ليس الجديد اليوم الاصطفافات التي تتبدل وفق الظروف والمصالح، ولكن حالة الترقب والانتظار لمجريات الأمور على الساحة الدولية انطلاقاً من التطور الأقرب وهو الترسيم البحري مروراً بالتطور المتوسط وهو المفاوضات في فيينا وصولاً الى التطورات المتمثلة بالحرب الروسية – الأوكرانية. مصير البلد رهن بالتطورات الخارجية التي ستحدد مجريات الأمور السياسية الداخلية، سواء هوية الرئيس الجديد أو آلية العمل وخارطة الطريق من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية التي هي الأهم والأكبر. نحن في نفق مظلم لا يمكن الخروج منه الا بتكامل سياسي واقتصادي ومالي ومن خلال خطة متكاملة لا يمكن أن تتبلور الا من خلال انكشاف معالم التسوية أقله على المستوى الاقليمي. النائب جبران باسيل يقوم بخطواته من منطلقات أساسية وثابتة، اذ أنه ليس مرشحاً للانتخابات الرئاسية وحظوظه ضعيفة جداً على هذا الصعيد، لذلك يرفع السقف في خطاباته من أجل أن يقول للجميع انه على الرغم من اقفال الطرقات أمامه في الوصول الى بعبدا الا أنه سيكون الممر الأساس لايصال أي مرشح الى بعبدا. لذلك، هو يصعّد في وجه الحلفاء والخصوم، ولو كان لديه حظوظ في الرئاسة، لكان خطابه أقل حدة تماشياً مع متطلبات الحملة الانتخابية. وبالتالي، يريد أن يكون الناخب الأول لأن هناك استحالة في أن يكون المرشح الأول.

شارك المقال