جرثومة عونية ترسم حدود لبنان الكئيب

لبنان الكبير

تمر الأعياد الواحد تلو الآخر، وتنتهي العطل الرسمية، والبلد لا يزال غارقاً في كوما التعطيل. يتفشى وباء، ويختفي آخر، وتستمر فيروسات السلطة بالتفشي من دون أي محاولة لحصر أي منها أو ابقائها تحت السيطرة لأن المسؤولين وفق أحد السياسيين غير مؤهلين. ولو كانوا عكس ذلك، لما كنا نشهد على أكبر تفشي تعطيلي على كل المستويات والمؤسسات من دون وجود مبرر، بحيث لا ظرف طارئ ولا كارثة كبرى ولا حرب مدمرة، واستحقاقات الرئاسة والحكومة وطريقة ادارة ملف الترسيم خير شهود.

اذاً، ملفات ثلاثة كبرى عالقة في عنق الزجاجة، وما يجمع بينها أنها مصيرية، وأجواؤها متقلبة وضبابية تماماً كطقس تشرين بمعنى أنها تتأرجح على إيقاع الهبات الباردة والهبات الساخنة، وعلى الايحاءات الايجابية والتفاؤلية التي سرعان ما تتحول الى سلبية وتشاؤمية، ويبقى الله وحده العالم بما يدور في رأس الحكام، وما يخططون ويفبركون للبلد وأهله.

البداية، مع ملف الترسيم البحري الذي تعرض لانتكاسة كبرى بعد التصعيد الاسرائيلي على خلفية الملاحظات اللبنانية على المقترح الأخير للوسيط الأميركي اَموس هوكشتاين، لكن مختلف الأطراف ان كانت من سياسيين أو خبراء أو محللين، يؤكدون أن ذلك يأتي ضمن الحملات الانتخابية الاسرائيلية، ولن يعرض الاتفاق للخطر خصوصاً أن واشنطن ماضية في اتصالاتها، ولن تتراجع قبل الوصول الى الترسيم بين لبنان واسرائيل. كما أن فرنسا دخلت وبقوة على الخط تفادياً لأي دعسة ناقصة مع العلم أن الإذاعة الاسرائيلية الرسمية أفادت بأن “شركة إنرجين صاحبة الامتياز في استخراج غاز حقل كاريش بدأت بالضخ التجريبي وأن الجيش يرى أن الاتفاق مع لبنان جيد جداً أمنياً، وهناك احتمال معقول أن يُوقّع هذا الشهر”، ما يتوافق مع تأكيد أحد المتابعين لمجريات النقاش بين المسؤولين اللبنانيين والوسيط الأميركي أن هناك احتمالاً لأن يحصل التوقيع قبل نهاية ولاية العهد الحالي وقبل الانتخابات الاسرائيلية، والمسألة مسألة وقت. في حين استبعد أحد الخبراء أن يتم الترسيم قبل الانتخابات الاسرائيلية، لكن على الرغم من تأخره بضعة أيام، الا أنه بات تحصيل حاصل الا اذا استجد ما ليس في الحسبان. وبالتالي، التواصل والنقاش مع هوكشتاين قائم على مدار الساعة خصوصاً بعد الانتكاسة الأخيرة، وخلال عطلة نهاية الأسبوع نوقش ما رفضه الجانب الاسرائيلي من الملاحظات اللبنانية، انما لن يعلن عنها تسهيلاً لتقريب وجهات النظر بين الطرفين وانجاح التفاوض الذي يحصل بعيداً عن الاعلام. ولا بد من الاشارة الى أن الضخ التجريبي للغاز لن يشكل عائقاً أمام النقاش لأنه ليس خرقاً لما اتفق عليه، ويبقى في اطار التجربة وليس الانتاج، والذي ربما يستغرق أسابيع.

وفي قراءة لملف الترسيم، رأى أحد المتابعين أنه يبدو واضحاً أن لبنان اعتمد التكتيك السياسي التقليدي الذي يخرج بالكامل عن حماية أمن لبنان القومي وحقوقه بالمعنى القانوني، وافتقد الى ديبلوماسية جدية في التعاطي مع قضية ذات بعد استثنائي ربطاً بالأمن القومي. اما اسرائيل، فاعتمدت الاستراتيجية الواضحة التي وضعت أيضاً هذه المسألة في صلب أمنها القومي، ولكن ارتبط ذلك بحسابات سياسية داخلية كما العادة في المسار الاسرائيلي الذي يخضع لعملية مفاضلة بين التنافس الانتخابي والسياسة الخارجية، أو بالأحرى ارتباط التنافس الداخلي بين اليمين المتطرف وبعض اليسار المعتدل والمسألة الاستراتيجية التي تتعلق بما تعتبره اسرائيل أمناً لها. اذاً، كان من المفترض أن تذهب مسألة الترسيم باتجاه اعتماد لبنان القانون الدولي، وتعديل المرسوم ٦٤٣٣، وبالتالي، حماية كل حقوق لبنان الطبيعية مع ضرورة الاعتراف بأهمية الوساطة الأميركية، ولو كانت للبنان ديبلوماسية مبادرة بعيداً عن الاستزلام والحسابات الضيقة وادعاء الانتصارات الوهمية وفرض الأجندة الايرانية عليه، لكان قادراً على خوض المفاوضات من خلال الذهاب الى التحكيم الدولي وما يفرضه قانون البحار، وبالتالي حماية حقوق لبنان البحرية. من جهة ثانية، يجب الاعتراف بأن لبنان يتخلى كلياً عن ترسيم حدوده البرية، وهذه مسألة شديدة الخطورة وتمس أمنه القومي.

وعلى ضفة التشكيل الحكومي الذي لا يزال يواجه مطبات هوائية تتراوح بين البرودة والسخونة، فإن مساعي الوساطات لرأب الصدع بين فريق العهد والرئيس نجيب ميقاتي قائمة، لا بل تكثفت الاتصالات في الساعات الماضية بدفع من “حزب الله”، لكن لم يسجل أي خرق أو تقدم يمكن أن يبشر بولادة الحكومة قريباً على الرغم من اجماع كل الأطراف على ضرورة التشكيل حتى لو في ربع الساعة الأخير من عمر العهد.

وفيما لفتت مصادر مقربة من بعبدا الى أن الاستحقاق الحكومي مجمد حالياً بانتظار بلورة ملف الترسيم، تحدثت أوساط الرئيس ميقاتي عن نية العهد عدم التأليف، وما قاله الرئيس عون خلال لقائه الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير حسام زكي بأن “الأولوية المطلقة يجب أن تكون راهناً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية لأن وجود الرئيس أساسي لتشكيل حكومة جديدة وليس العكس”، خير دليل بحيث يمكن أن نسأل هنا: هل نعى رئيس الجمهورية أي وساطة أو نقاش حول التأليف؟ ليس مستبعداً ذلك لأن كل العراقيل التي وضعت أمام التشكيل، والمطالب المتغيرة والمتبدلة وفق عقارب الساعة كانت تشي بأن فريق العهد منذ البداية يماطل ويمارس أسلوباً ملتوياً في التعاطي مع ملف التأليف. ولا بد من التأكيد هنا أن الرئيس ميقاتي سيستمر في المحاولة، ولن يألو جهداً في التسهيل، لكن ليس إلى حد اعطاء الثلث المعطل ل “التيار الوطني الحر” أو الرضوخ لمطالبه التعجيزية التي تؤمن استمراريته في الحكم والسيطرة على مختلف المؤسسات من خلال تعيينات يريدها كما تشتهي مصالحه السياسية المستقبلية.

ورأى أحد المطلعين أننا قد نكون أمام حكومة في الأيام الأخيرة من العهد، لكن المسألة الأساسية لا تتعلق بنوعية تشكيلة الحكومة وحسب، بل ببرنامجها وأولوياتها في ظل تخبط كامل وارتباك والتباس في ما يمارسه رئيس الحكومة وفريقه والذي عملياً يخرج كلياً عن حسن إدارة الشأن العام لصالح تدوير الزوايا التي لا علاقة لها بإنقاذ لبنان من الانهيار.

اما الاستحقاق الرئاسي، فهو بدوره يعاني من كل أنواع الانتكاسات والعوارض الفيروسية، بحيث أنه كلما اقتربنا من ٣١ تشرين الأول الجاري كلما ارتفع منسوب الشغور بسبب التباينات وعدم التوافق حتى بين الفريق الواحد، اذ لا قوى المعارضة استطاعت توحيد صفوفها ولا قوى الموالاة التي لم تتفق على اسم حتى اللحظة. ولا يبدو أن سيناريو الجلسة يوم الخميس المقبل سيختلف عن سيناريو الجلسة الأولى، والتي ربما ستطير بعدم اكتمال النصاب لأن تكتل “لبنان القوي” يتوجه الى عدم المشاركة لمصادفتها مع ذكرى 13 تشرين.

وفيما تتحدث المعلومات عن حركة متسارعة في عواصم أوروبية وعن اجتماعات تعقد بعيداً عن الأضواء، محورها الاستحقاقات الدستورية والازمات المالية والاقتصادية والحياتية في لبنان، من المنتظر أن تقوم وزيرة خارجية فرنسا كاترين كولونا بزيارة رسمية الى بيروت يوم الجمعة المقبل تستمر حتى السبت، بحيث تستكمل الدينامية الخارجية من خلال دعوة المسؤولين الى الاسراع في تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس جديد للبلاد.

وفي هذا الاطار، أشار أحد المحللين الى أن الانتخابات الرئاسية قد تعلق ربطاً بفشل مسار ترسيم الحدود البحرية، وهنا يُدخل العامل الايراني تعقيداً كبيراً على الانتخابات الرئاسية في ظل عدم اتفاق محور الممانعة على مرشح وعدم القدرة على تأمين أكثرية للتصويت لأي مرشح قد يطرحه. ومن جهة ثانية، اصرار قوى الأكثرية المرجحة على الذهاب باتجاه دعم النائب ميشال معوض مع اختلافات وتباينات داخل هذه القوى ليس في المعايير، بل في القدرة على ايصال مرشح سيادي إصلاحي كالنائب معوض. بهذا المعنى، سنكون أمام إعادة نظر جدية في مسألة مسار انتخاب رئيس الجمهورية على الرغم من أن تسريبات تتحدث عن أن الرئاسة حسمت لصالح قائد الجيش، لكن هناك اعتبارات عدة قد تحول دون وصوله منها الحاجة الى تعديل الدستور. والكلام عن أن هناك صفقة متكاملة ستأخذ لبنان الى مؤتمر تأسيسي تقوده سويسرا، مبالغ فيه اذ أن الدينامية الداخلية وموازين القوى خضعت لتعديل متكامل ولا يمكن الذهاب باتجاه أي تعديل على مستوى الدستور اللبناني خصوصاً بعد البيان الثلاثي الأميركي – الفرنسي – السعودي والذي بدا واضحاً فيه أن فرنسا تنتظم ضمن المعادلة الدولية – العربية والتي تريد العودة الى الدستور وتطبيق القرارات الدولية وتنفيذ مسار الإصلاحات وحسم خيار أن يكون المرشح سيادياً، اصلاحياً، جامعاً بمعنى أن يتحاور مع جميع اللبنانيين، ولكن أيضاً ندياً أي عدم خضوعه لأي ابتزاز وعدم استسلامه أمام محور الممانعة. من هنا كتلة قوى التغيير، معنية بالخروج من مربع المراوحة والأسماء الرمادية التي لا ترتقي عملياً الى مستوى المواصفات التي تحدثت عنها مبادرتهم أيضاً.

الراعي: لبنان لا يتحمل أنصاف الرؤساء وأنصاف الحكومات

قال البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في عظة بعد ترؤسه قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي: “فيما يقدر شعب لبنان مبادرات الدول الصديقة، يهمه أن تصب هذه المبادرات في خلق مشروع حل لبناني متكامل يحسن علاقات اللبنانيين ببعضهم البعض، لا أن تحسن علاقات هذه الدول الأجنبية ببعض المكونات اللبنانية على حساب أخرى، ولا أن تحسن علاقاتها بدول إقليمية على حساب لبنان. الحل المنشود يقوم على وحدة الولاء للبنان، وعلى السيادة والاستقلال، وعلى الحياد واللامركزية الموسعة، ونظام الاقتصاد الحر، وعلى الانفتاح على المحيط العربي والاقليمي والعالمي، وعلى تطوير الحياة الدستورية انطلاقاً من اتفاق الطائف بتنفيذه روحاً ونصاً”.

واعتبر أن “الأوان اَن لكي ينكشف المرشح لرئاسة الجمهورية الفارض نفسه بشخصيته وخبرته وصلابته ووضوح رؤيته الإنقاذية وقدرته على تنفيذها. إذا انتخب مثل هذا الرئيس نال للحال ثقة الشعب والأسرة الدولية والعربية”، مؤكداً أن “الشعب ونحن لا نريد رئيس تسويات. البطريركية المارونية من جهتها لا توزع تأييدها للمرشحين، خلافاً لما يروج البعض، إنما تدعم الرئيس الناجح بعد انتخابه، وبعد تبنيه الجدي والفعلي بنود الحل اللبناني برعاية دولية. نحن لم نشعر بأي إحراج مع جميع الذين أموا الصرح ويؤمونه مستطلعين رأينا. كما لم نشعر بأي إحراج في إجراء مناقشة صريحة مع هؤلاء جميعاً. ما نصارحهم به هو سلوك الخط المستقيم حتى البلوغ إلى الإجماع على شخص الرئيس المميز بكل أبعاده. نعني الرئيس الذي يعبر عن إرادة المجتمع اللبناني لا رئيساً يستأنس بالولاء للخارج”.

أضاف: “لم يعد لبنان يتحمل أنصاف الحلول وأنصاف الصداقات وأنصاف الرؤساء وأنصاف الحكومات ولا أنصاف الولاءات. هلموا، أيها النواب، وانتخبوا رئيساً نتمناه ثم شكلوا حكومة جامعة لا فئوية. حكومة الشعب لا حكومة حزب أو تحالف أو فئة تريد أن تهيمن على البلاد بالواسطة. فالشعب يرفض حكومة على قياس البعض كما يرفض رئيساً غب الطلب”.

شارك المقال