لا سكرة ولا فكرة… البلد متروك للشغور

لبنان الكبير

بين سكرة الترسيم وفَكرة الاستحقاقات الدستورية، يعيش اللبنانيون هواجس متعددة الاتجاهات على أبواب شتاء قارس اذا صدقت التوقعات، ويجدون أنفسهم محاصرين بين مرّين لا ثالث بينهما: اما مواجهة الصقيع باللحم الحي، وهذا من سابع المستحيلات خصوصاً في المناطق الجبلية، واما شراء الحطب أو المازوت، وهذا أيضاً من سابع المستحيلات لغالبية العائلات لأنه وفق الحسابات، وفي الحد الأدنى، يحتاج كل منزل إلى ما يقارب ٤٠ أو ٥٠ مليون ليرة للتدفئة فقط.

على أي حال، فإن الشعب تعود أن “يقلع شوكه بإيدو” في ظل سلطة تفوقت في فشلها على المستويات السياسية والاجتماعية والمالية والمعيشية والصحية، وهي اليوم تنتظر حبل نجاتها من خلف البحار ومن أعماقها بحيث أن تشكيل الحكومة بات أصعب من تسلق السلحفاة الى أعلى الشجرة، في حين أن الاستحقاق الرئاسي يسير نحو الشغور بسرعة أرنب بري في غابة فسيحة، لكن عالم السياسة يبقى الغابة الأكثر غموضاً والمليئة بالمفاجآت، وتبقى الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات.

وفي وقت يعتبر بعض المحللين أن الترسيم سينعكس ايجاباً على الاستحقاقات الدستورية، يجزم آخرون بأن لا ارتباط للملفات ببعضها البعض على الرغم من أنه سيفتح نافذة على الاستقرار في المرحلة المقبلة. وتؤكد المؤشرات الحالية أن البلد أمام فراغين، حكومي ورئاسي، وأوضح مصدر متابع للتشكيل لموقع “لبنان الكبير” أن الطريق أمام ولادة حكومة جديدة أصبحت شبه مقفلة في ظل الأيام القليلة المتبقية قبل أن يتحول المجلس النيابي الى هيئة ناخبة، لكن في الوقت نفسه لا يمكن الجزم بأننا وصلنا إلى حائط مسدود خصوصاً أن المساعي لا تزال مستمرة في هذا السياق، ولا يمكن تأكيد أو نفي المعلومات التي تتحدث عن أن آخر محاولة تتمحور حول طرح ابقاء الحكومة الحالية على ما هي عليه مع حرية كل جهة تغيير الوزراء المحسوبين عليها، ومن يدري ربما تطرأ مفاجآت في ربع الساعة الأخير، وتصدر مراسيم التشكيل خصوصاً أن “حزب الله” مصر على خرق التعطيل تفادياً للتفسيرات الدستورية والا فإن الحكومة الحالية ستتولى صلاحيات رئيس الجمهورية في مرحلة الشغور المتوقعة.

أما على صعيد الترسيم الرئاسي، فلا يمكن غض النظر عن الحركة الديبلوماسية اللافتة في هذا الاطار خصوصاً الأوروبية منها، وآخرها زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إلى بيروت، وتشديدها على ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء المهلة الدستورية الا أن المعطيات في الداخل تؤشر إلى شغور، وأننا سنشهد على جلسات انتخابية فولكلورية شبيهة ببعضها البعض بحيث لن تنتج رئيساً بانتظار انتهاء الولاية الحالية، اذ حينها ستتدخل الدول الصديقة، العربية منها والأجنبية، لايجاد مخرج سريع وعدم إطالة مرحلة الشغور، لكن كيفية بلورة هذا المخرج لم تتضح بعد اذ هناك من يقول ان فرنسا تعمل حالياً على تسوية لم تنضج بعد، وهناك من يتحدث عن مؤتمر حواري ستستضيفه سويسرا ربما الشهر المقبل وستجمع فيه مختلف الأطراف السياسية على طاولة النقاش للبحث في كيفية معالجة الأزمات اللبنانية، الا أنه يبقى محدود الفعالية على أرض الواقع بحسب أحد المطلعين لاعتبارات داخلية وخارجية، ولبنان ليس جزيرة منعزلة، بل هو أول وأكثر المتأثرين بالتطورات في المنطقة.

ورأى أحد الخبراء أن الحركة الديبلوماسية باتجاه لبنان خصوصاً منذ تفجير المرفأ الذي قضّ مضاجع الطبقة السياسية خوفاً من نتائجه، اقتصرت على الفرنسيين وتدخل الرئيس إيمانويل ماكرون. وفرنسا مستمرة في هذا الاطار، وأرسلت وزيرة خارجيتها الى لبنان كي تحث الطبقة السياسية على تنفيذ الاستحقاق الرئاسي في موعده، واذا تعذر ذلك، فخلال مرحلة قصيرة بعد انتهاء الولاية الحالية. وتتقاطع الحركة الديبلوماسية الفرنسية مع طلب أميركي بتجديد الحياة والديناميكية لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي كي تستطيع تسلم صلاحيات الرئيس في فترة الشغور، وفي الوقت نفسه لمسنا تحركاً للسفير السعودي وليد بخاري لتهيئة وتسهيل عملية الدخول إلى الاستحقاق الرئاسي بموقف موحد. كل ذلك أتى بعد الاجتماع الذي عقد في فرنسا بين الديبلوماسية الأميركية والفرنسية والسعودية، والذي قيل إنه رسم مساراً للبنان، ويبدو أن الفرنسيين يتابعون هذا المسار. اما بالنسبة

الى المؤتمر في سويسرا، فإن الأمور لا تزال في طور اكتشاف النوايا، واستطلاع آراء مختلف الكتل النيابية والجهات السياسية علماً أن السويسريين يدركون تماماً أن الفرقاء اللبنانيين لن يغيروا في مواقفهم حتى لو ذهبوا الى سويسرا، ما يعني أن المؤتمر لن يساهم في حل مشكلات اللبنانيين انما يكون خطوة لاستيعاب نتائج العقوبات التي هددت بها وزيرة الخارجية الفرنسية، والتي قد تفرض على معطلي الاستحقاق الرئاسي.

وهنا لا بد من الاشارة الى وجود رأي عام معين يراهن على أن الترسيم البحري الذي حمل بشائر تجديد وتمديد للطبقة السياسية التي وضعت شروطاً وعقبات أمام الاستحقاقات الدستورية خوفاً من خسارة مواقعها، سيبدل مواقفها لتصبح أكثر ليونة تجاه الاستحقاقات، وهذا ليس مستبعداً لأنها موعودة بحصة سواء في النفط أو التعيينات أو المحاصصة أو تقاسم السلطة ومنافعها. وبالتالي، حركة الترسيم لا تعدو كونها جزءاً من عملية تقاسم منافع اقتصادية مع العدو، ومنافع سياسية في الداخل، وستكون أوكسيجين للطبقة السياسية التي كانت مهددة في وجودها واستمراريتها بسبب التدهور الحاصل على يدها، وعدم امكانها الاستمرار بالنهج نفسه.

وفي هذا الاطار، فإن الوساطة الأميركية لن تتوقف عند حد الترسيم انما ستواصل مساعيها، تأميناً لمصالحها في المنطقة كما أنها لا تزال على مبادئها الأساسية وأولوية مصلحة العدو الاسرائيلي، لكنها أيضاً ستواصل تسهيل الأمور بالنسبة الى لبنان من دون أن يؤثر ذلك على علاقته بالعدو أو على طبيعة الصراع القائم بين البلدين، وبالتالي، من المتوقع أن يكون هناك نوع من مساعدة أميركية لتفكيك بعض العقد الخدماتية خصوصاً في ما يتعلق بقطاع الكهرباء وتسهيل تنفيذ الاتفاقيات بين لبنان ومصر والأردن. وأكثر من ذلك، من مصلحة أميركا أن تستمر بالإشراف حتى على استخراج الغاز في حال حصوله وضمان تطبيق الاتفاق لأن فيه منفعة للعدو في التصدير الى أوروبا. وهنا نحن أمام معادلة مفادها أن الوساطة الأميركية تتحرك بناء على خلفيات سياسية وكأنها ترغب في تسليم أوروبا كرهينة للعدو الاسرائيلي في وقت يسعى الأوروبيون الى الدخول إلى الشرق الأوسط عبر بوابة لبنان. ما يعني أن هذه المرحلة تعتبر مرحلة سباق يضغط فيها الأوروبيون لتنفيذ الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها وتنشيط الوضع اللبناني كي تستطيع فرنسا عقد الاتفاقات اللازمة. وفي الخلاصة، كل عملية الترسيم وما رافقها من سجالات وصراعات، خلفياتها سياسية تندرج في اطار التوظيف لمصلحة الأحزاب المتسلطة على السلطة في لبنان.

شارك المقال