انهيار أخلاقيات السياسة بعد المؤسسات… حرب بيانات على جبهة الشغور

لبنان الكبير

كان ينقص المسرح الداخلي اللبناني المزيد من التشنج في صفوف القوى السياسية لتضاف الى كل التعقيدات والأزمات التي تنعكس على حياة المواطن بصورة مباشرة بحيث اشتعلت أمس حرب البيانات على ضفتي رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب ميشال معوض والتي تخطت أصول التخاطب واللياقة بين مسؤولين، يتسلمون زمام السلطة والمؤسسات في البلد. خطابات وردود لا تليق برجال الدولة والحكماء والكبار ما زاد في صب الزيت على النار. وبغض النظر عن دقة المواقف المنقولة عن الرئيس بري، شعر اللبنانيون بمزيد من الاحباط لأنهم كانوا ينتظرون أن يحلّ الوحي على المسؤولين، ويعودوا الى داخلهم الانساني، والى ضمائرهم وانسانيتهم، ويعملوا بيد واحدة أو يتلاقوا في منتصف الطريق رأفة بشعب يموت ألف مرة في اليوم، وانقاذاً لبلد بات انتشاله من قعر جهنم من سابع المستحيلات، ولا يتلهون بالمناكفات والسجالات العقيمة التي لن تؤدي الا الى المزيد والمزيد من التدهور والشلل لأنه بكل بساطة، طفح الكيل، والخوف اليوم من أن تصل الأمور الى نقطة اللاعودة.

وفي تفاصيل حرب البيانات التي اشتعلت اثر حديث صحافي قال فيه الرئيس بري: “مرشحنا معروف وهو سليمان فرنجية. الورقة البيضاء سمته من دون أن تكتب اسمه. مرشحنا جدي وأكدنا عليه مراراً. أما مرشحهم فليس سوى تجربة أنبوبية. المشكلة التي يتخبط فيها الاستحقاق الرئاسي ليست بين المسلمين والمسيحيين، ولا بين المسلمين والمسلمين، ولا بين المسيحيين والمسيحيين، بل بين الموارنة والموارنة”. ليرد المكتب الاعلامي لمعوض، في بيان أشار فيه الى أنّ “رئيس حركة أمل نبيه بري الذي يصادر رئاسة مجلس النواب منذ أكثر من 30 عاماً أتحفنا بكلام أقل ما فيه أنه لا يليق برأس المؤسسة البرلمانية إنما يليق به كميليشيوي. قول الرئيس بري إن مرشحنا جدي وأكدنا عليه مراراً أما مرشحهم فليس سوى تجربة أنبوبية فيه محاولة الاساءة إلى رئيس جمهورية شهيد هو الرئيس رينيه معوض. هذه الاساءة موجهة أيضاً إلى جميع النواب والكتل التي صوّتت للنائب ميشال معوض في جلسات الانتخاب الرئاسية”.

وعلى الأثر، صدر عن المعاون السياسي للرئيس بري النائب علي حسن خليل بيان، قال فيه: “أتحفنا رئيس حركة الاستقلال ميشال معوض الذي يعيش في فقاعة الترشيح منذ أكثر من خمسة شهور بكلام أقل ما فيه أنه بلا تربية. كان الأجدى به أن يتأكد من مضمون الكلام الذي نقل عن لسان دولة الرئيس الاستاذ نبيه بري ودقته ولكن عصبيته كشفته أمام جميع اللبنانيين وكشفت أي مشروع مرشح للرئاسة هو. وللمعجزة نقول نتفهم شعورك بعدما أيقنت أنك تحولت الى أُنبوب تجارب سياسي في مختبر من رشحك وضحك عليك”.

وفي السياق، رفض مصدر قواتي التعليق على السجال، مكتفياً بالقول: “اذا كان الرئيس بري لم يتحدث بهذه اللهجة وهذه الصيغة، فمن المهم التوضيح، وايقاف هذا السجال، خصوصاً أنه يتوجه الى مرشح معروف أصله وفصله وترشيحه معلن، ويحصل على نسبة معينة من الأصوات في البرلمان اما مرشحهم، فلا يزال غير معلن”. فيما أكد مصدر مقرب من عين التينة في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن “كلام الرئيس نبيه بري لا يحمل أي إهانة بالعكس هو يوصف واقعاً بمعنى أنهم يجرون التجارب، ربما تنجح وربما لا. هو يتحدث عن توصيف واقع الترشيح ولا يتحدث عن شخص ولا يوصف حالة شخصية إنما هو يصف حالة رئاسية ينتهجها الآخرون”.

أما عن الردود إن كان من معوض أو من بعض السياسيين، فأشار المصدر الى أن “كل من رد على الرئيس نبيه بري خارج الاطار الذي يقصده سياسياً، اذ من الواضح أنه سعى الى الشعبوية وقلة الأدب السياسية، فالرئيس بري في كل تاريخه على رئاسة المجلس لم يتحدث بطريقة شخصية مع أحد بل كان يوصف واقعة سياسية، لذلك الرد يجب أن يكون بالسياسة وليس بالشخصنة. على أي حال يبدو أن انهيار المؤسسات في الدولة قد تسبب بعدوى لانهيار الآداب والقيم الأخلاقية لدى البعض من السياسيين، الذين باتوا يتجاوزن حدود الأدب والأخلاق، كما يحصل مع هؤلاء النواب وغيرهم من النواب الذين دخلوا إلى المجلس صدفة أو حملتهم رياح عشوائية، رياح الفوضى، لتحط في المجلس النيابي. لا بد في نهاية المطاف من أن يستقيم هذا الوضع وتعود الأمور إلى سابق عهدها.”

على أي حال، وفيما الأطراف المعنية تريد التهدئة، وعدم تحميل الموضوع أكثر مما يحتمل خصوصاً أنه قابل للكثير من التفسير والتأويل، التأم مجلس القضاء الأعلى في قصر العدل برئاسة القاضي سهيل عبود، وبحث في قضية القاضية غادة عون وفي المستجدات القضائية المرتبطة، التي طرأت في الأيام الماضية. وأفيد أن عون حضرت الاجتماع بعد أن كانت التقت قبل الظهر مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، وسلمته مذكرة. ورشح عن الاجتماع الذي لم يصدر بيان عنه أن التركيز كان على تطبيق القانون والتقيد بأحكامه.

من ناحية أخرى، وغداة قرار مصرف لبنان رفع سعر صيرفة الى 70 ألف ليرة للدولار، انخفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء، وتتجه الأنظار اليوم الى الجمعية العمومية لجمعية المصارف التي سيتحدد فيها مصير اضرابها بعد أن تمت معالجة النقاط التي دفعتها الى الاقفال “قضائياً”. أما مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، فأعربت في بيان، عن “بالغ قلقها إزاء تداعيات استمرار الفراغ الرئاسي، مع بلوغه شهره الخامس، وفي ظل غياب الاصلاحات وتصلب المواقف وازدياد الاستقطاب”.

وبالعودة الى الواقع السياسي المرير فقد وصفته كل التقارير العالمية بالخطير جداً، والأنكى من كل ذلك أن المسؤولين لم يفكروا ولو للحظة واحدة في تغيير مسارهم الانحداري، ويؤكد المراقبون السياسيون والاقتصاديون أننا وصلنا الى مرحلة من التفتت تتطلب معجزة لاعادة الاصلاح والبناء، وما نعيشه ليس سوى نتيجة أفعال وارتكابات مسؤولين لم يتمتعوا يوماً ولا ساعة ولا دقيقة واحدة بحس المسؤولية أو أقله بحفنة قليلة من الانسانية، ويتمترسون حول حجة “ما خلونا”.

وفي هذا الاطار، لفت الانتباه خبر اعلان وزير النقل اليوناني كوستاس كارامانليس استقالته عقب اصطدام قطارين في وسط البلاد، والتي اعتبرها واجباً، وأقل ما يمكن أن يفعله لتكريم ذكرى الضحايا. الاهتمام بهذا الخبر ليس لأنه من أولويات اللبنانيين على الرغم من احترام الضحايا، وليس بسبب حادث الاصطدام بحد ذاته الذي يمكن أن يحصل في أي لحظة وفي أي بلد، بل لأن قرار الاستقالة وتحمل المسؤولية يبدو غريباً على شعب نكل به المسؤولون على مدى سنوات، وتفننوا في طرق تعذيبه، وأتلفوا أعصابه، وأوصلوه الى الموت جوعاً ومرضاً ويأساً واحباطاً، وفجروا عاصمته بأطنان نيترات حقدهم وظلمهم من دون أن يرف لهم جفن خجلاً من دماء الضحايا والجرحى. شعب رشق مسؤوليه بالحجارة والبيض والبندورة، ولاحقهم الى المطاعم والمنازل، ووصفهم ونعتهم بأبشع الصفات والنعوت، فأداروا الأذن الصماء، ولم يكترثوا بمطالب المظاهرات المليونية، بالتنازل عن عروشهم والكف عن اعدام شعب بأكمله. وحده الرئيس سعد الحريري تجاوب، ولم يتردد في التنازل عن رأس سلطة تنفيذية لأنه كما اعتبر حينها “أصبح من الضروري أن تحصل صدمة كبيرة لمواجهة الأزمة” على الرغم من حزمة الاصلاحات التي اتفق عليها مع الأطراف الأخرى.

وسؤال يطرح في عز الأزمات، والنيل من الكرامات: لماذا يتشبث المسؤولون بمراكزهم الى هذا الحد، ويستمرون في النهج عينه وبالعقلية ذاتها، ما أدى الى انهيار غير مسبوق في تاريخ الجمهورية على الصعد كافة؟ ولماذا لا يتم الاعتذار عن الارتكابات بحق الشعب بأكمله أو تقديم الاستقالات افساحاًفي المجال للغير علّه يتمكن من الاصلاح؟

أحد الوزراء السابقين عزا عدم تحمل المسؤولية الى التخلف والعقم واعطاء الأولوية دوماً للكرسي والمركز بدل أن تكون الأولوية للعمل والانتاج. هناك دائماً نوع من تقاذف للمسؤولية، و”ما خلونا”، وهذا نتيجة خلل في الخيارات، وايصال أشخاص الى السلطة غير مؤهلين، معتبراً أن “من المفروض أن ينظر كل مسؤول الى ذاته، ويتعرف على حقيقته، ولا ينظر الى مرآة فيها مكبّر بحيث تكبر حجمه أكثر مما هو. كل مسؤول يجب أن ينظر الى الأمور من خلال ضميره وحسه الانساني لأنه لا بد أن يكون هناك في داخل كل انسان شيء من الوطنية والانسانية، ويعمل لقيامة الوطن بدل التعاون على وضع التراب فوق قبر الوطن. حرام أن يدفن هذا الوطن تحت التراب لأنه رسالة بكل ما للكلمة من معنى. السلطة ليست سلطة انما تجمّع مافيات. وبالنسبة الى المسؤولين، الناس ليسوا مواطنين، ولا يعتبرون أنفسهم مكلفين منهم انما مكلفون عليهم. واذا كنا ننتظر من الذي خرّب أن يعيد الاعمار، فنكون مخطئين. المسؤولون بعيدون عن تحمل المسؤولية بعد النجوم عن الأرض. في الماضي كنا نقول ان الأعدل والأنزه والأعلم هو الذي يجب أن يتولى المسؤولية. المريض يفتش عن اختصاصي ماهر ليعالجه، وعن الدواء الجيد للشفاء. لماذا عندما نبني هرمية الدولة، لا نفتش عن الأصلح والأكثر أهلية؟ العملية تحتاج الى صحوة مزدوجة: صحوة المسؤول وصحوة الناس الذين يختارون. ولا بد من الاعتراف بأن الشعب يتحمل مسؤولية كبيرة في المحاسبة لأنه وفق المقولة المأثورة: كما تكونوا يُولّى عليكم”.

شارك المقال