مخاطر عودة اللاجئين السوريين!

اكرم البني
اكرم البني

بين تقرير أعدّته أخيراً لجنة تحقيق أممية تابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وبين تقرير حمل عنوان “أنت ذاهب إلى حتفك” صدر منذ أيام عن منظمة العفو الدولية، ثمة توافق كبير، ولنقل تطابقاً، في تحديد الانتهاكات التي تعرض لها لاجئون سوريون قرروا العودة إلى مدنهم وقراهم، وأهمها الاعتقال والاختفاء القسري والعنف الجنسي والتعذيب الجسدي والمعنوي وصولاً إلى الموت في أقبية السجون. وخلص التقريران إلى التنبيه من استمرار التدهور المريع لحقوق الإنسان في سوريا، والتحذير من زيف الكلام والخديعة حول عودة آمنة لمن يرغب من اللاجئين، وبديهي أن يتوافق هذان التقريران مع موقف كل إنسان عانى فتك السلطة السورية وخبر ماهية بنيتها القمعية وأدرك أنها تنتمي إلى نوع السلطات الأمنية التي لا تقيم وزناً للإنسان وتستسهل الفتك به وتدمير الوطن على من فيه إن تهددت مصالحها وسطوتها وفسادها، وهو ما دلت عليه ممارساتها العنيفة منذ انطلاق ثورة السوريين وحتى اليوم.

في المقابل ثمة توافق آخر بدأ يتضح أخيراً تجاه قضية اللاجئين السوريين، أطرافه غالبية الحكومات والأنظمة المتدخلة في الشأن السوري، وعنوانه الاستهتار بالمخاطر التي تنتظر هؤلاء اللاجئين في حال عودتهم والتنصل من المسؤولية الانسانية تجاههم، والأنكى توسل شتى أساليب الضغط، الصريحة والمضمرة، لوضعهم أمام خيار وحيد هو العودة لبلادهم، لتوظيف ملفهم في خدمة أغراض ومرامٍ سياسية، ناكرين أولوية وجود ضمانات حقيقية تقي هؤلاء العائدين من الاضطهاد والاعتقال وتوفر لهم أبسط مستلزمات العيش بعد الخراب الرهيب الذي طال منازلهم ومرافق الصحة والتعليم والخدمات، بما في ذلك منع سوق فتيانهم الى حتفهم بذريعة التجنيد الإجباري، وإعادة الملكيات التي انتزعت منهم تبعاً للقانون رقم 10 السيئ الصيت.

بالتباين عن النظام الذي يبدو مصراً على موقفه التخويني وتعامله العدائي حيال اللاجئين السوريين ومجاهرته بأن لا مكان لهم أو حقوق في مشروعه لإقامة سوريا المتجانسة، فإن لموسكو أهدافاً من تحريك قضية اللاجئين، تبدأ باستثمار هذه المأساة الإنسانية لحض أنظمة الجوار على التعاون والتطبيع مع دمشق لتخفيف أعباء اللجوء إلى أراضيها وبخاصة البلدين المأزومين اقتصادياً، لبنان والأردن، مروراً بتوظيف هذا الملف لطمأنة الدول الغربية وتشجيعها كي تتراجع عن تحفظاتها للمساهمة في إعادة الاعمار، وخصوصاً تلك التي استقبلت أعداداً كبيرة من اللاجئين، انتهاءً بتحويل هؤلاء الهاربين من بطش السلطة إلى واقع اجتماعي خانع وذليل يعترف بما كرسته النتائج العسكرية ومجبر على الخضوع لها.

وإذ تبدو طهران غير متحمسة ظاهرياً لعودة اللاجئين لأن بقاءهم خارج سوريا يوفر لها أماكن واسعة لتوطين من يرغب من شيعة ايران وغيرهم، لكنها خير من يعرف أن عودة لاجئين معوزين ومقهورين بلا خيارات أو ضمانات، سيشكلون تربة خصبة لتنشيط التمدد المذهبي ولتعزيز نفوذها الاجتماعي والسياسي بما في ذلك استثمارهم في دعم حليفها السوري وتمكينه من تحصيل بعض الشرعية، ما يفسر التنطح اللافت لـ”حزب الله” لمعالجة هذا الملف في لبنان، ومسارعته، متجاوزاً كالعادة دور الدولة، لحض اللاجئين على العودة، مستثمراً الاعتراض الشعبوي اللبناني على وجودهم جراء بعض التجليات السلبية لتداعيات لجوئهم في المستويات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.

أما تركيا التي استقبلت الكم الأكبر منهم، ومنحتهم شروط حياة هي الأقل سوءاً مقارنة ببلدان الجوار الأخرى، فهي البلد الأكثر حماسة لتخفيف أحمال ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجئ يقيمون على أراضيها، بدليل ضغطها على المجتمع الدولي لتمرير حضورها العسكري في الشمال واحتلالها لعفرين كما لشريط حدودي واسع من الأرض السورية، واعتبار هذه المناطق جميعها مناطق آمنة، يمكن لللاجئين العودة اليها والعيش فيها، وعززت ذلك بغض نظرها عن اندفاعات عنصرية يقوم بها متطرفون للتضييق على اللاجئين في بعض المدن التركية وإيذائهم وتخريب أعمالهم، كما بقرار إغلاق الحدود واتخاذ تدابير مشددة وصلت لإطلاق الرصاص وقتل بعض السوريين الهاربين من آتون العنف، منعاً من دخولهم أراضيها، ولا يغير هذه الوقائع، بل يؤكدها، أن تكون حكومة أنقرة هي الأكثر براغماتية في استغلال هذا الملف الانساني، إن لجهة توظيفه لاستجرار المزيد من المعونات الأممية وابتزاز الدول الغربية، مادياً وسياسياً، عبر تهديدها بموجات من اللاجئين إن تساهلت في إجراءات ضبط الحدود، وإن لجهة توسله لمحاصرة الوجود الكردي في شرق البلاد ولتعزيز التحاق أهم فصائل المعارضة بها.

صحيح أن المؤسسات الأممية المعنية بملف اللاجئين السوريين ضعيفة وعاجزة، بسبب هشاشة قرارات مجلس الأمن المحكوم بالفيتو الروسي، وجراء تراجع المعونات الإغاثية، وصحيح أن ثمة نهجاً سياسياً أميركياً ينشغل اليوم بهمومه الداخلية، وأوضح تجلياته الانسحاب من أفغانستان، ما يعني استمرار لامبالاته تجاه مصير اللاجئين السوريين ومستقبل بلادهم، وصحيح أن قوى اليمين الشعبوي قد نجحت في الترويج لخطابات معادية للاجئين وإثارة نوازع السكان الأصليين ضدهم باعتبارهم أساس الداء والبلاء، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة رهانا لا يزال قائماً على الاتحاد الأوروبي، الذي لا يزال مؤمناً بمخاطر عودة اللاجئين السوريين في الظروف الراهنة، وتجمع دوله على التمسك بالمعايير الأممية لعودتهم، كعودة طوعية من دون إكراه، مع توفير كافة الشروط المتعلقة بأمنهم وحياتهم وشروط عيشهم.

والحال، إذا تجاوزنا المزايدات الوطنية الرخيصة، أو دعوات اليأس والاستسلام، فإن الخيار الانساني الوحيد لعودة اللاجئين إلى ديارهم هو البدء بتحقيق تغيير سياسي يتوافق مع مطالب السوريين وحقوقهم، وفق قرار مجلس الأمن 2254، يرعاه المجتمع الدولي وتحدوه ضمانات أممية واضحة، تزيل الخوف لدى غالبية السوريين من اعتداءات وملاحقات ثأرية، وتوفر الحد الانساني لجميعهم من معايير الحياة الكريمة والآمنة.

شارك المقال