من يحكم لبنان؟ 

د. أحمد عبدالله عاشور

عُرفت بيروت منذ القدم بأنها باريس الشرق ولم تكن شهرتها مقتصرة فقط على مجال الفنون أو الموضة أو الحياة الصاخبة كما اعتقد البعض بل إنها تميزت عن جميع أقرانها في العواصم العربية في تلك الفترة بالتقدم العلمي والطبي والتقني والاقتصادي والسياسي والفكري حتى لُقّبت برائدة التنوير.

لقد كان هذا البلد الجميل مقصداً وملاذاً للجميع… ينشدون فيه الراحة والمتعة والعلاج الطبي وعقد الصفقات التجارية والسياسية وحتى الجاسوسية والتزود الفكري والنشر الإعلامي، وذلك قبل أن تعرف ثورة التكنولوجيا والإنترنت… يعقد فيها سنوياً المئات من المؤتمرات وتقام فيها المعارض الدولية في شتى المجالات…

من المعروف بأن الشعب اللبناني يضم نخبة من أعلى النسب في العالم من العلماء والمثقفين والسياسيين والمفكرين المبدعين والعباقرة يشهد بذلك الجميع ونجد أمثلة كثيرة على ذلك في موسوعة المشاهير حيث احتل الكثير منهم مراكز علمية وأدبية وسياسية مرموقة في دول العالم حتى وصل بعضهم إلى سدة الحكم في بعض الدول الكبرى…

على الرغم من كل هذه المقومات الحضارية وهذه الأعداد الكبيرة من المفكرين والعباقرة بين أبناء هذا الشعب، إلا أن لبنان أضحى يسير على غير هدى فهو لم يعد قادرا على ممارسة حقه الطبيعي في حكم نفسه بنفسه والأحوال فيه باتت أقرب إلى الخروج عن السيطرة منها إلى الاستقرار…

ألقى بعض اللبنانيين أنفسهم في أحضان من يدّعون صداقة لبنان سواء كانت دولاً عربية أو أجنبية من اجل مصالح مادية أو سياسية ثم نصّبت هذه الدول نفسها أوصياء على لبنان وشعبه مقابل دعم مادي محدود استفاد منه بعض الأفراد والأحزاب السياسية، ولم يكونوا على علمٍ بأنهم مجرد دمى وأراغوزات يحركهم أسيادهم كيفما شاؤوا عند كل دفعة ليلعقوا الأحذية في الحانات والمراقص، وقد يكون استثمار هذا الدعم المادي والسياسي في تصفية حسابات بين تلك الدول أو بين اللبنانيين أنفسهم داخل الملعب اللبناني حتى أصبح لبنان مسرحاً وساحة تنفذ فيه المعارك والمواجهات بين مختلف الأطراف والجنسيات وشتى أنواع الشعارات والإيديولوجيات وتم جر لبنان لمعاداة دول لإرضاء أخرى وأصبح المواطن اللبناني المغلوب على أمره هو الضحية الأولى إذ عانى جراء ذلك أمنياً واقتصاديا واجتماعيا…

فقد السياسيون اللبنانيون ثقتهم في أنفسهم لدرجة جعلتهم عاجزين عن التعامل مع أبسط أمورهم وشؤونهم الداخلية ودفعتهم مرة أخرى للاستعانة بالخارج للحصول على مشورة أو موافقة على أمور أو أنشطة داخلية عادية. لكن نتيجةً لاختلاف مصالح تلك الدول فقد تأخرت القرارات وتعطلت أبسط أمور الحياة في الدولة وانتشرت الفوضى ونشأ فراغ أمني كبير في السلطة والحكم في مختلف المجالات، وانقسم لبنان إلى تجمعات وتيارات وفئات دينية وأحزاب تقدر بالعشرات تحكمها شريعة الغاب والشائعات وتسود فيها لغة المصالح الخاصة وهو ما تمخض عن أنشطة مريبة وتنظيمات سياسية ودينية متطرفة استقطبت العديد من أبناء البلد، تفرقوا وانقسموا وتقاتلوا بشراسة من أجل أهداف غير معروفة ورغبات شيطانية واشتعلت المعارك بأشكال مختلفة أثرت أمنيا واقتصاديا واجتماعيا في جميع الفئات ومختلف الأنشطة.

تذرّع بعض المسؤولين اللبنانيين بأن أوضاع المنطقة العربية وما يحدث في الجوار وتدخل الدول الأخرى قد تكون هي المسؤولة عن تدهور الوضع اللبناني، وألقوا باللائمة على دول خارجية للهروب من تحمل مسؤوليتهم ولتغطية فشلهم الذريع في إدارتهم لشؤون البلاد… وتعطيل مصالح الشعب ونسوا أنهم هم من ألقوا بأنفسهم في أحضان أوصياء الخارج عندما عجزوا عن إثبات أنفسهم في مجتمعهم في سبيل الحصول على دعم مالي وبناء القصور والفيلات والإثراء على حساب مقدرات هذا الوطن وحياة مواطنيه البائسين…

سياسيو لبنان لهم قدرة عجيبة وخارقة على اقتناص الفرص والظهور الاعلامي في المناسبات والحديث المنمق والتصريحات النارية والحوار التمثيلي الرائع حتى تكاد تصدق قائله وأن كل واحد منهم على حق ولكن من دون انجاز فعلي على أرض الواقع، كيف استطاعوا أن ينسجوا لأنفسهم بطولات وهمية مزيفة وكاذبة لإغواء أزلامهم؟ وكيف استطاع سماسرة المتعة والحروب أن يتحدثوا في وسائل الإعلام عن العفة والشرف والنزاهة والطهارة وهم أنجس من إناء الكلب؟ قد يكون ذلك أحد أسباب انجذاب المواطن اللبناني البسيط لبعض القياديين من دون تمييز.

من أجل ذلك غيّر هؤلاء القياديون مبادئهم وباعوا ضمائرهم وانحلت أخلاقياتهم وأصبحوا لصوصا نهبوا أموال الدولة ومقدرات الشعب وأباحوا تجارة المخدرات والحشيش والسوق السوداء وباعوا ضمائرهم، حتى أصبحوا أدوات لتنفيذ تعليمات وأجندة أسيادهم بالخارج وبذلك احتقروا أنفسهم وحكموا بالهوان على شعب بأسره…

سوف يتم قريباً حل النزاع وإنهاء الصراع بين تلك الدول المتنازعة وسوف يتم التوافق بينهم من دون إشراك لبنان في الحل. وهو الذي كان حليفاً لهم في هذا النزاع. سوف يتم التوقف عن الدعم الشخصي أو الحزبي ويصبح لبنان يغرد وحيداً خارج السرب مستشعراً مرارة الهزيمة. عندها سوف يستشعر اللبنانيون حجم وفداحة الخسارة فيمن وضعوا ثقتهم بهم. وسيندمون…

يا عيب الشوم” على كل سياسيي وقياديي وإعلاميي هذا البلد الحر الحبيب ممن باعوا أوطانهم واستغلوا شعوبهم وقادوها إلى سلسلة من الحماقات والضياع والالتزامات المهينة وإراقة ماء الوجه وفقدان الكرامة من أجل لعبة السياسة القذرة وبحثاً عن دور الثعلب بعد رحيل الأسود. أولئك الذين نصّبوا أنفسهم حماة للوطن وأوصياء على الشعب وهم أول البائعين لهذا الوطن والمتاجرين بقوت أبنائه. فمن يشتري كرامة هذا الشعب وينقذه وينتشله من غرور وشرور هؤلاء الذين يدّعون الولاء والإخلاص لهذا الوطن بينما الواقع يثبت عكس ذلك؟! فكيف لأي لبناني حر أن يفجر الكنائس ويهدم المساجد ويدمر المساكن وينتهك الحرمات ويسرق أموال الناس بالباطل ويقطع رزقهم ويسرق ويهتك حرماتهم ويروّع أمنهم ويسلب حقوقهم أن يدّعي الوطنية؟!

إن الشرعية لا تتحقق بدماء تسال ولا بالفوضى والعنف والاستقواء بالأجنبي ولا بتقديم المصلحة الفردية والأطماع الشخصية أو الحزبية أو رفع الشعارات الدينية المشبوهة. فلا بد أولاً من توافر حسن النية ولا بد ثانيا من نبذ الخلافات ووقف الصراعات وجلوس الجميع للمشاركة في حوار ثقافي وفكري متحضر بمنأى عن المصالح الشخصية والأطماع الذاتية من أجل نهضة أمة ومستقبل شعب، فإنّ الاستقلال الفعلي والحقيقي الذي ينشده الجميع هو عندما يتخلص لبنان من تسلّط بعض قياداته ووصاية بعض الدول الخارجية.

إنّ من المهم تغيير الوجوه واختيار قيادات وطنية مناسبة لا تنتمي للأحزاب أو أشخاص من عوائل بعينها تنضوي تحت سيطرة جهة معينة. فلماذا تتكرر في الحكم وجوه نفس الأشخاص أو من ذوي النفوذ المادي أو الديني أو الحزبي لعشرات السنين؟ لماذا لا يتم اختيار الأفضل بغض النظر عن إمكاناته المادية أو اتجاهاته الدينية أو المذهبية أو أصوله العرقية؟ لماذا الإصرار على أن يكون الدولار أو العرق أو المذهب أو الحزب هو الحاكم؟

وكلمة أخيرة لمن يعطي لنفسه حق الوصاية على هذا البلد؛ نخاطبكم بلغة العقل والحكمة وباسم الدين عسى أن نجد فيكم عقلاء ونحذركم من مغبّة ما صنعتم وما وصلت إليه الأحوال اليوم، اتركوا لبنان وشأنه وكفى تدخلاً باسم الصداقة ودعوا اللبنانيين يقررون بأنفسهم ما يريدون فهم أقدر على ذلك، فقد فهم واستوعب الشعب الدرس.

ورسالة إلى المسؤولين اللبنانيين ان التاريخ لن يغفر لكم ما لم تسارعوا إلى طي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة يكون الشعور بالمسؤولية تجاه وطنكم هو أول عناوينها ويكون السعي الجاد والحثيث لرأب الصدع ولم الشمل وتقديم مصلحة الوطن على المصالح الشخصية هو شريعتها ودستورها. حتى يعود لبنان ليتبوأ مكانته التي تليق بتاريخه العريق وحضارته وليستعيد ماضيه المشرق حينما كان مهداً للحضارات ومنارة للعلوم والفنون والثقافة والإبداع وواحة للحرية والكرامة الإنسانية ووطناً للمحبة والسلام.

شارك المقال