“المنتصِر” إذ يشحذ

علي نون
علي نون

زمن السرعة يهوى الاختصار. هذا فن برع فيه الفلاسفة الإغريق الأوائل، على الرغم من أن زمنهم كان غير زمننا، والوقت عندهم كان متاحاً ومتوافراً بكمياتٍ “حرزانة” وسيّالة وطافحة، لكنهم اختصروا مشاهداتهم وتحليلاتهم للظاهر والباطن والمرئي والمحجوب والأرضي والسماوي، وكثفوها وتركوا للناس والتاريخ خلاصات لا تفنى. خلاصاتهم كانت نتيجة زمن بطيء، فبقيت هي وانطوى هو. وخلاصات زمننا سريعة بحكم العصر والضرورة. لكن بعضها يبقى أقلّه في الأرشفة التقنية طالما أن الذاكرة البشرية لا تستوعب كل الضخّ المستدام الداخل إليها بفعل تلك التقنية.

لكن على الرغم من ذلك الفيضان المعلوماتي الداخل الى المدارك الحسية وعبرها، والأكبر من القدرة على استيعاب جلَّه في الذاكرة البشرية تلك، تبقى في التداول “خبريات” مميزة وحوادث استثنائية ومشاهدات تستحق التأريخ… وهذه يلهج بها العامة، أهل القراءة والكتابة وأهل الفطرة وتواضع القدرات على حد سواء. على مدى عقود وربما قرون، وخصوصاً تلك التي تتأتى من أزمان المحل والقحط والإملاق والحروب والكوارث الطبيعية والبشرية، ثُم من المحطات المفصلية التي تمر بها الأمم والدول والكيانات نتيجة الحروب وما تخلفه من تبعات مريرة طويلة المدى على المنتصِّر والمهزوم، وإن كانت مرارة المهزوم أمضى وأعنف بطبيعة الحال وأكثر قدرة على الفتك والتحطيم، لكنها أيضاً أكثر قدرةً على تحفيز مجسّات الإبداع والخيال نظرياً وفعليًا وأدبياً وعلمياً وماليًا وتنموياً، مثلما حصل ويحصل مع المثالين المستحيلين الألماني والياباني منذ انهزامهما في الحرب العالمية الثانية

…مقدمة طويلة لجملٍ قصيرة، وفزلكة استطرادية لاستنتاجٍ محدد، ومحاولة متواضعة لتوصيف خلاصة جليلة، وقراءة مبسطة لحقيقة مركبة وثقيلة. وهذه تفيد أن حزب إيران في لبنان هو الحالة الوحيدة من نوعها في العصر الحديث التي تساهم في “تحرير” قطعة أرضية من بلدها من محتل خارجي لكنها تدمرها بكليتها بسياستها وارتباطاتها ومشروعاتها! وبدلاً من أن تفديه بتضحياتها تأخذه للتضحية به من أجلها، بل مثلما قالت اللامعة حبيبة درويش عبر أحد مواقع التواصل الإجتماعي: هو الحزب الذي ساهم في تحرير جنوب لبنان من إسرائيل لكنه أعطاه كله إلى إيران! أو يكاد أن يفعل ذلك بهمّة لا تعيقها انكسارات ولا بلايا “طالعات نازلات” فتكت بالناس في كل حاجياتهم ومتطلباتهم وبديهيات عيشهم في الزمن الحاضر، ولم تترك ستراً مستوراً منهم إلا وشلّعته ونشرته أمام أمم الأرض وشعوبها، شرقاً وغرباً ، شمالاً وجنوباً، حتى أمسَوا وأمسى بلدهم العزيز لبنان مضرب مثلٍ في التسول “الرسمي” وعنواناً لفاعلي الخير، ومصبّاً للعطايا والبواقي من دولٍ وأممٍ قريبةٍ وبعيدةٍ ، عربيةٍ وأجنبيةٍ، ونصّاً مدرسياً يُعلّم في معاهد التعليم العالي عن معادلة “المنتصِر” الذي يتسوّل، والمنهزِم الذي يعطي، وعن الدول الأولى والرائدة في الفشل، عن اللغو المريض بمفردات العزّة والكرامة في زمن الذل والهوان والإنحطاط، وعن “كسر” الحصار ، ثُم طلب الإذن والمساعدة من “العدو” الذي تكسّر حصاره… وعن مفارقاتٍ كثيرة مشابهة تنسلُّ من جذر “نصرة المستضعفين” . فإذ بهؤلاء ازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وفقدوا كل شيء في بيوتهم وأرزاقهم وأوطانهم، وهاموا في الدنيا متفرقين، بعضهم إلى الآخرة تحت الأرض، وبعضهم فوقها بحثاً عن لحظة أمان وكسرة خبز ومظلّة حنو إنسانية!

الشيخ “نعيم قاسم” نائب الأمين العام للحزب من الصنّاع البارزين للخلاصات المبهرات الداخلات في صميم تشكيل مفارقات زمننا هذا، خصوصاً عندما يقول ويعيد القول بأن أحوال قومه أكثر من جيدة، وأن نجاحات حزبه “دوخّت” الآخرين، وأن منظومته تمكنت من كسر كيد الأعادي الأغيار من خلال التكافل الإجتماعي والصحي داخل بيئته، وإنه في الإجمال تمكن من المجدين: المقاومة والبيئة الخاصة والحاضنة! ثم يستنتج بأن هؤلاء الآخرين المعادين الذين “داخوا”من ذلك التمكن وتلك النجاحات، لا يملكون سوى مواصلة انتقاد حزبه وإلاّ أصبحوا بلا عمل!

هذا كلام قيل علناً وينقل بشيء من التصرف الذي لا يغيّر ولا يعدّل في معناه ومبناه ولا في وضوحه. فحزبه مرتاح ويمكنه التعبير بشفافية تامة وأمام عموم اللبنانيين عن راحته تلك، وإلا ما معنى أن تكون في زمن المقاومة؟ وكيف يمكن إغاظة الأعداء والأخصام إن لم يكن عبر إشهار التمكن والصمود والإرتياح والإطمئنان المكين الى الحاضر والمستقبل؟ بل في واقع الحال كيف يمكن أن يُقال من حزب إيران وكباره غير الذي يقولونه!؟ وكيف يمكن الزعم بأن هؤلاء في عالمهم الخاص لولا المدد اللغوي التعبوي الاستنفاري الذي “يدلقونه” بأريحية فوّارة؟ بل كيف يمكن المحاججة بالفلسفة والتاريخ لولا الشواهد المعروضة بوضوح ليزري من قبلهم؟ وكيف بعد ذلك يمكن الوصول الى خلاصات سريعة ومختصرة تفيد بأن صنّاع الموت والعدم لا يعرفون معنى الحياة… والذي يعيش في كتاب التاريخ الديني والقومي الإنقسامي والتفتيتي، لا يرى في نكبات الاخرين (أهل الملّة والأمّة) سوى إضافات جليلات على انتصاراته الإلهية… وليس أقل من ذلك!

شارك المقال