ولادة اتفاق الطائف… ومجابهة دعوات التأسيس

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

يصادف غدا 30 أيلول ذكرى بدء التفاوض والبحث في وفاق اللبنانيين وبدء النقاش حول وثيقة اتفاق وطني أقرت في الطائف وصارت دستوراً للبنان عام 1989، وكان من نتائجها العمل على إنهاء الحرب الأهلية في لبنان.

وعلى الرغم من كل الكلام الذي قيل وقتها ويقال اليوم، ما زال معظم اللبنانيين حتى الآن متمسكين بتنفيذ بنود اتفاق الطائف، على الرغم من انفتاح شهية البعض على عقد مؤتمر تأسيسي يكرس رغبة ايران بإعلان هيمنتها الكاملة على لبنان بفضل فريق لبناني استخدم منطق الغلبة والهيمنة السياسية والعسكرية وتقديم المصالح الشخصية على العامة مما حول لبنان إلى “جمهورية موز”. وعلى الرغم من استغلال النظام السوري خلال السنوات التي تلت توقيع الاتفاق العمل على عرقلة آلية تنفيذ الاتفاق عبر أدواته في لبنان بشكل لم يسمح لهذا الاتفاق ان يأخذ دورته الطبيعية في تطبيق بنوده، الا ان فقهاء الدستور وقوى سياسية شهدت على توقيع الاتفاق يصرون على ضرورة التمسك به دستورا للبنان ورفض أي طروحات مغايرة له وتنفيذ كل بنوده القانونية، فهو فنّد صلاحيات كل موقع من مواقع المؤسسات الحاكمة في لبنان، وشكّل تحولاً في توزيع السلطات وتقاسمها بين كل المكوّنات اللبنانية.

ويمكن القول ان تجاوز الطائف اعتُبر خطاً أحمر وعودة الى اطلاق حرب أهلية جديدة ومسّاً بالسلم الأهلي الذي دفع اللبنانيون أثماناً باهظة لإرسائه، حتى ان الرئيس ميشال عون لم يستطع تجاوزه لا بل طبّق بنوده خلال تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الأخيرة اذ مارس دوره حتى النفس الأخير في التوافق على تشكيلة الحكومة.

ولا يمكن تجاوز دور الرئيس الشهيد رفيق الحريري في المساهمة في وضع أسس اتفاق انهاء الحرب الاهلية وعودته الى حضن العالم العربي من خلال هوية واضحة، فلم يعد بلداً ذا وجه عربي وإنما عربي الانتماء وأرسى ميثاقاً للعيش المشترك بين مختلف الطوائف اللبنانية ومكوّناتها، وساوى بين المسلمين والمسيحيين واقر تسليم الميليشيات لاسلحتها الى الجيش اللبناني وعودة المهجرين.

كيف ولد الطائف؟

كان قد مر على الحرب الاهلية في لبنان 15 سنة، وكانت قد جرت محاولات محلية وعربية كثيرة لوقفها وإسكات لغة القصف والمدافع بين المناطق اللبنانية لكنها فشلت، ومع حصول فراغ في سدة رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وانقسام السلطة التنفيذية إلى حكومتين أولى برئاسة سليم الحص وثانية برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون، تداعى العرب إلى عقد قمة في 23 أيار 1989 في الدار البيضاء في المغرب لحل الأزمة المتفاقمة في لبنان، وطالبوا كل الأطراف المعنيين في المشكلة اللبنانية باحترام وقف إطلاق النار وفق قرار مجلس الجامعة العربية الصادر في 27 نيسان 1989.

وشكّلت لجنة ثلاثية برئاسة ملك المغرب الحسن الثاني والعاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، واعطيت صلاحيات كاملة لتحقيق الأهداف التي أقرها المؤتمر لحل الأزمة اللبنانية. وتمثل كل رئيس وملك في اللجنة بوزير خارجيته، فرأس اللجنة الأمير سعود الفيصل وضمت وزير الخارجية المغربي عبد اللطيف الفيلالي ووزير الخارجية الجزائري سيد غزالي.

وحدّدت مهمات اللجنة بالعمل على حل مشكلات لبنان وفرض السلام بكل الوسائل المتاحة والقيام بالاتصالات المناسبة لتوفير مناخ ملائم لدعوة أعضاء مجلس النواب اللبناني حتى خارج لبنان عند الضرورة لصوغ ميثاق وطني، وإعداد وثيقة الإصلاحات السياسية ومناقشتها لتشكيل أساس الحوار بين الأطراف كي يقرها المجلس النيابي في أول اجتماع له ودعوته إلى الانعقاد في العاصمة اللبنانية للتصديق على الوثيقة وانتخاب رئيس للجمهورية يشكّل حكومة الوفاق الوطني.

اجتماعات مجلس النواب

في 25 أيلول 1989، وجه رئيس مجلس النواب حسين الحسيني برقية إلى النواب للمشاركة في الاجتماع النيابي الذي قررت اللجنة الثلاثية العربية عقده في 30 أيلول 1989 في مدينة الطائف السعودية لإعداد وثيقة الوفاق الوطني ومناقشتها.

قوبلت الدعوة بالرفض من الجنرال عون، فجمع بعد يومين من دعوة الحسيني 24 نائباً من الشطر الشرقي لبيروت في بعبدا، معلناً بعد الاجتماع في مؤتمر صحافي “لا إصلاح ولا انتخاب قبل برمجة الانسحاب السوري”.

في 30 أيلول، عقد اجتماع البرلمانيين اللبنانيين في قصر المؤتمرات في الطائف تنفيذاً لمقررات اللجنة الثلاثية العربية المنبثقة من قمة الدار البيضاء، بحضور 62 نائباً من 73 (هم الأحياء من أصل 99 نائباً) لبوا دعوة اللجنة الثلاثية وغاب 8 نواب لأسباب غير سياسية و4 نواب لأسباب سياسية. كما حضر الاجتماع وزراء خارجية المغرب عبد اللطيف الفيلالي والجزائر سيد أحمد غزالي والسعودية سعود الفيصل.

في اليوم التالي، اتخذ الاجتماع النيابي قراراً بتشكيل لجنة مصغرة برئاسة الحسيني لصوغ البنود التي قد تكون موضع تباين في وثيقة الوفاق الوطني المطروحة عليهم من اللجنة الثلاثية. وجرت مناقشات على مدى أيام في الاجتماع النيابي اللبناني وتمت دراسة بنود وثيقة الوفاق الوطني والبند الذي استأثر بالنقاش هو بند رئيس الجمهورية وصلاحياته. وفي 4 تشرين الأول، أعلن عن انتهاء المناقشات في “مشروع وثيقة الوفاق” بعنوان “المبادئ العامة والإصلاحات” ومن ضمنها رفع عدد النواب وأن يتوزعوا مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، فضلا عن مسائل أبرزها إلغاء الطائفية السياسية، الانتخابات، اللامركزية الإدارية، القضاء، المجلس الاقتصادي الاجتماعي الخ…

وأعلن الرئيس الحسيني في اليوم التالي، بعد الجولة التاسعة، أن المجتمعين تجاوزوا بند بسط سيادة الدولة إلى بند تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي ولم يكن هناك أي خلاف حول هذا البند، وأجمع المتكلمون على ضرورة التحرير من الاحتلال الإسرائيلي وتطبيق القرارات الدولية وخصوصاً القرار 425.

تعثّر لجنة الصياغة

في 8 تشرين الأول، بعث الملك السعودي رسالتين إلى رئيس مجلس الوزراء سليم الحص والعماد ميشال عون، متمنياً على الحص “بذل ما يستطيع من جهود لإقناع النواب بالتعاون في ما بينهم للتوصل إلى موقف موحد”.

الا ان لجنة الصياغة تعثرت في التوصل إلى مخرج من المأزق وتجاوز عقبة صلاحيات رئيس الجمهورية، مما أدى الى تدخل اللجنة الثلاثية لإزالة العقبات وأضيفت بعض التعديلات على الوثيقة.

ردة فعل جنرال بعبدا كانت واضحة في تصريح له في 15 تشرين الاول، إذ دعا المتحاورين في الطائف إلى “عدم الالتزام بأي شيء يمكن اعتباره تنازلاً عن سيادة الوطن”

وتواصلت الاتصالات الخارجية والعربية على الأثر لتذليل عقبة “بسط السيادة”. وتوجه يوم 19 تشرين الأول سعود الفيصل إلى دمشق وسلم الرئيس حافظ الأسد رسالة من الملك فهد تستهدف وضع اللمسات الأخيرة لوثيقة الوفاق الوطني ومحاولة تذليل موقف العماد عون الذي وجّه تهديداً للنواب دعاهم فيه إلى تعليق اجتماعاتهم والعودة إلى لبنان للتشاور مع القاعدة الشعبية.

وبعد 16 ساعة من المحادثات مع القيادة السورية، أنجز الفيصل وضع اللمسات الأخيرة على الطبعة الأخيرة من وثيقة الوفاق الوطني التي خرجت عناوينها إلى النور في 22 تشرين الاول 1989، بعد 11 جولة نقاش للمجلس النيابي اللبناني في الطائف. وتم الاقتراع بالأسماء عليها فوافق 57 نائباً على الوثيقة وامتنع حسن الرفاعي عن التصويت وتحفّظ توفيق عساف، وانسحب زاهر الخطيب من الاجتماع، أما فريد جبران فقد قرر التحفّظ.

ولادة الدستور الجديد

في اليوم التالي، جرى احتفال في قصر الحمراء بولادة الطائف باحتفال رعاه الملك فهد وشارك فيه سفراء الدول الخمس الكبرى وبينهم سفير الاتحاد السوفياتي (السابق) في الكويت وأعضاء اللجنة العربية الوزارية.

وأكد الملك السعودي باسم اللجنة العربية الثلاثية العليا استعداد اللجنة للاستمرار في مساعدة المجلس النيابي اللبناني والمؤسسات اللبنانية الشرعية «لأن الوضع ليس مجرد مهمة أديناها وانتهينا منها»، بينما أشاد الرئيس الأميركي جورج بوش بجهود السعودية وملكها في إنجاح اجتماعات الطائف وأبدت الدول العربية وفي مقدمها مصر ارتياحها للاتفاق الذي اعتبرته فرنسا «مرحلة مهمة وجديدة». وفي دمشق، أكد وزير الخارجية السوري فاروق الشرع أن سوريا ستعمل على تعزيز الوفاق الوطني في لبنان.

ولدى عودة النواب الى لبنان، تم انتخاب الرئيس رينيه معوض في الخامس من تشرين الثاني 1989 رئيسا لجمهورية لبنان في جلسة انعقدت في مطار القليعات بالشمال، الذي اغتيل بعد 17 يوما من انتخابه يوم عيد الاستقلال اثناء مغادرته القصر الحكومي في منطقة الصنائع، وسرعان ما انتخب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية في 24 تشرين الثاني 1989.

ورفض عون تسليم قصر بعبدا للرئيس المنتخب ليشن بعد حرب التحرير التي اطلقها في 14 آذار 1989، حرب الإلغاء ضد القوات اللبنانية التي تعاونت مع السلطات اللبنانية الشرعية لبسط سلطتها في المناطق المسيحية التي كانت تسيطر عليها. وصرّح عون علنًا بأنّه لا يعترف بشرعية أي اتّفاق أو تحالف بين الحكومة والقوات اللبنانية. الى ان اتُخذ قرار مواجهة عون وانهاء الحرب الاهلية، واستعان الهراوي بالجيش السوري الذي نفّذ هجوماً في 13 تشرين الأول 1990 لتحرير قصر بعبدا، الا ان النتيجة لاحقا كشفت رغبة سوريا بالهيمنة على الحياة السياسية في البلد من خلال مخابراتها التي دخلت عقر دار القوى والشخصيات السياسية وعرقلت تنفيذ اتفاق الطائف بتعطيل محاولات الحكومات المتعاقبة تنفيذه.

لقد أرسى الطائف لبنان وطناً سيداً حراً مستقلاً، وطناً نهائياً لجميع أبنائه، واحدا أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عليها في الدستور اللبناني والمعترف بها دولياً. واكد ان لبنان عربي الهوية والانتماء، وجمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز. كما نص على ان أرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين، وان لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

وحدد الإصلاحات السياسية بإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، ومع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني غير طائفي يتم استحداث مجلس للشيوخ. واقر الغاء الطائفية السياسية وقاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وإلغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية.

ونص على اتفاق الحكومة السورية وحكومة الوفاق الوطني اللبنانية على إعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي في ضهر البيدر حتى خط حمانا المديرج عين داره، وإذا دعت الضرورة في نقاط أخرى ويتم الاتفاق على تحديد حجم ومدة تواجد القوات السورية في المناطق المذكورة أعلاه وتحديد علاقة هذه القوات مع سلطات الدولة اللبنانية في أماكن تواجدها.

وعن تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، نص الاتفاق على استعادة سلطة الدولة حتى الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً وتنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة. والتمسك باتفاقية الهدنة الموقعة في 23 مارس/آذار 1949 واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية.

وحدد الاتفاق إطاراً زمنياً للانسحاب السوري، فنص على أنه يجب على السوريين الانسحاب في غضون عامين. وعن العلاقات اللبنانية ـــ السورية أورد اتفاق الطائف المعادلة الاتية: عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال.

شارك المقال