الحوكمة الرشيدة عند “الرجعيين”!!

علي نون
علي نون

لم تكن دبي وانجازاتها الاستثنائية اول وآخر مثال يوضع امام الناس كقياس للمقارنة، بين الدول ذات الحوكمة الرشيدة وتلك الغارقة في صناعة الاوهام وتلفيق الاعجازات فيما هي لم تفعل سوى تبخير الثروات الوطنية وافقار الناس وارجاع دولها الى ما قبل الحداثة وظواهرها.

انجازات دبي وشقيقاتها في دولة الامارات، وعموم دول الخليج العربي وفي مقدمها السعودية، هي انجازات دول مقتدرة عرف اصحاب الشأن فيها كيف يوظفون اقتدارها في المكان الصحيح بشريا وتنمويا، وكيف يطوعون الزمن لجعل الإعمار صنوه وسمته وهو الموصوف بالسرعة والدقة والاعجاز العلمي.

المقارنة بين دول الخليج العربي وغيرها من الدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز، تدل على انتصار الاولى في معركة التنمية الداخلية من دون التخلي عن الالتزامات القومية، التي فرضتها تبعات النزاع مع إسرائيل والضرورات الحاسمة لدعم دول الطوق والمواجهة، ولا برامج المساعدات الإنشائية والتنموية لدول عربية واسلامية وافريقية كثيرة… والارقام التي صرفت وقدمت في ذلك المجال الواسع وعلى مدى عقود، ليست قليلة ولا بسيطة على الاطلاق.

في باب المقارنة وليس من خارجه، يظهر الفارق الجوهري بين الخليج العربي كدول متشابهة في آلية الحكم والعمل المؤسساتي وبنيان الدولة واجتماع اهلها وعاداتهم وتقاليدهم، وبين دول النفط العربية الثلاث الموازية في الثروات والعوائد، اي العراق والجزائر وليبيا… وفي ذلك تظهر النكبة مثل النكتة السوداء! وتظهر المأساة مثل علم فوق سارية او مثل رمز “وطني” لا تخطئه عين مهما كان قصر نظرها طويلا!

تلك دول كانت ضحية اصحاب السلطة فيها… دفعت من دون ان تجني، وضحت من دون ان تبني، بل راحت ثرواتها الوطنية هباء وهواء وخواء، وعادت في الحقيقة الى مستويات عيش وبنى تحتية وخدمات عامة وقدرات شرائية، الى مراحل ما قبل الطفرة النفطية! بحيث يمكن الزعم بهدوء معقول، أن بعض حواضر العمران المؤسساتي والانشائي والتنموي القائم راهنا، هو “ذلك البعض” من بقايا مرحلة الاستعمار الأجنبي… الايطالي في ليبيا والفرنسي في الجزائر والبريطاني في العراق! وناس تلك الدول اليوم تئن وتحن الى سوية عيش تشبه تلك التي كانت ايام زمان! وتلك التي تذكر المخضرمين منهم، بإن ايام النضال للتحرر من الاستعمار كانت “أجمل” من ايام الاستقلال! وكانت وعود الربيع أرقّ وأنصع من حقيقة الشتاء الطويل الذي ضرب في كل اتجاه وغيًب انوار التحرر والبناء “والسعادة ” والرخاء!!

دول ثلاث نُكبت بطواقمها الحاكمة، وبطموحات تهدّ الجبال، تبدأ بـ”تحرير فلسطين” ولا تنتهي عند بناء “دولة حرّة وشعب سعيد”!! فاذ النتيجة الوحيدة الظاهرة للعيان هي ان الثروات الوطنية ضاعت وتبخّرت من دون الانتصار خارجيا وتحرير شبر واحد من الارض المحتلة، ومن دون الانتصار داخليا في معركة التنمية في كل مستوياتها وكل مراتبها، لا بشريا ولا سياسيا ولا حجريا ولا مؤسساتيا! وعند اول فتحة ضوء كاشف ظهر الخراب وطاف خارج البيت! وراحت الشعوب العزيزة والكريمة للدول الثلاث في تيه الفوضى والهجرة والانكفاء الى سوية طلب الامان والكفاية الذاتية ليس الا.

…دول الخليج العربي التي كانت توصف بـ”الرجعية “في ادبيات الطواقم الحاكمة في الدول التي كانت تصف نفسها بـ”التقدمية” تمكنت من اختزال الزمن ومقارعة الطبيعة وهزم المستحيل وتطويع الجفاف والنشاف والانتصار في كل تحدّ واجهته، ثم جلست تقدم للعالم مثالا لا نظير له، عن كيفية بناء الدول الرائدة والحديثة، دول القانون والمؤسسات والدستور، والشعوب المحظية بالحوكمة الرشيدة تلك والقادة الحكماء والعقلاء الذين عرفوا الفارق الحاسم بين “ادعاء” التقدم و”صناعة “ذلك التقدم…

شارك المقال