الأمم المتحدة!

اكرم البني
اكرم البني

لا يعرف المرء حقاً، إذا كان حكام العالم وزعماؤه يصدقون أنفسهم ويتوقعون أن تحدث خطاباتهم أمام القمة السنوية للأمم المتحدة أي تأثير أو تغيير، أم أنهم يدركون عدم جدوى ما يقومون به وأنه لا ينتظر من هذه المنظمة الأممية وقممها الروتينية أي منفعة أو مردود!

صحيح أن الحاجة الرئيسة لإنشاء الأمم المتحدة كانت إزالة آثار الحرب العالمية الثانية ووضع ضمانات لمنع حصول حروب جديدة، ما مكّن الدول المنتصرة من احتلال موقع متميز في مؤسساتها، وجعل مجلس الأمن وهو السلطة المهيمنة أشبه بأداة توافق بينها لتسوية الصراعات والنزاعات، وغالباً على حساب مصالح الشعوب الضعيفة، وصحيح أيضاً أن مياهاً كثيرة جرت كشفت مهاماً ذات طابع إنساني بدأت تتبلور وتحضر بقوة خلال العقود المنصرمة وتحتاج إلى تضافر جهود الجميع للتوصل إلى حلول لها، مثل الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات وظواهر الانحباس الحراري والتصحر، فضلاً عن مخاطر اضطراب العدالة الاجتماعية وتفاقم الفقر والبطالة والهجرة، وانتشار الآفات والأوبئة والمثال الأخير الساطع هو جائحة كورونا، لكن الصحيح أيضاً أن العالم الذي كان يفترض في ضوء ما سبق، أن يتجه صوب الحاجة للتكاتف والتعاضد ولبلورة إرادة أممية موحدة للحد من المخاطر المشتركة التي تهدد البشرية، ولتنسيق حالة من توافق المصالح بين مختلف المكونات العالمية وإدارة الخلافات بينها على أسس سلمية، سار على النقيض تماماً، نحو منطق الاستهتار بهذه المخاطر وتغليب الدوافع الأنانية والمصلحة الذاتية، مما أنذر بعودة المجتمعات إلى مناخات الانكفاء والانعزال والتطرف.

وإذ تعني العودة لسياسة الاستئثار والأنانية وتقدم المصالح الخاصة للدول، فشل الانفتاح على الآخر وتراجع القدرة التوافقية العالمية على إدارة هذا الكوكب بصورة مفيدة للجميع، فإنها لم تأت من فراغ بل صنعتها أسباب متضافرة، منها تصاعد الأزمات الاقتصادية في مختلف البلدان وتردي الحياة الإنسانية للكثير من الشعوب جراء إخفاق الخطط التنموية وانفلات ظواهر الاستغلال والجشع والفساد، ما أضعف وبدرجات مختلفة، قدراتها الذاتية على تقديم المزيد لمصلحة خير الإنسانية جمعاء، ومنها العجز عن نشر ثقافة عالمية تدفع فكرة التشارك والتعاضد وقيم المواطنة وحقوق الإنسان الى الأمام، زاد الطين بلة اختلاف أشكال النظم السياسية وتباين درجات علاقتها بشعوبها وبقواعد الحياة الديمقراطية، مما أدى إلى غلبة جماعات سلطوية فئوية في الكثير من البلدان لا يعنيها العمل الجماعي والبعد المؤسساتي العالمي بقدر ما تعنيها مصالحها الضيقة وحسابات الهيمنة على مجتمعاتها وامتصاص ثرواتها، بما في ذلك العبث بمصالح الأوطان الأخرى وهتك حقوقها، ومنها أخيراً، التأثير اللافت لسياسة الإحجام والانكفاء لدى الولايات المتحدة الأميركية، بصفتها القوة الأعظم والقاطرة التي تقود العالم، وميلها للاهتمام بقضاياهم الداخلية، كرد فعل على النتائج المخيبة للآمال التي نجمت عن سياسة تدخلية نشطة ودفعتها، بعد أحداث أيلول عام 2001 لخوض غمار حربي أفغانستان والعراق.

ومن القناة السابقة، يصح النظر إلى ضيق صدر الشعوب من التعايش مع الآخر المختلف، واستعار الصراعات الدينية والقبلية لأتفه الأسباب وتصدر النزاع المذهبي السني والشيعي المشهدين العربي والإقليمي، وتالياً إلى تنامي التفرقة العنصرية في أكثر بلدان الغرب إعلاءً لقيم المواطنة والمساواة ربطاً بتقدم وزن اليمين المتطرف في مشهدها السياسي، ثم إلى انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي وتنامي الدعوات الإسرائيلية لإقامة دولة يهودية، وأيضاً إلى تقدم مناخ عالمي مفعم برغبة قديمة – جديدة تفضل الأمن والاستقرار على التغيير الديمقراطي واحترام الكرامة الإنسانية، ما يمكّن أنظمة الاستبداد من استعادة زمام المبادرة لتسويغ القمع والقهر والتفرد في الحكم وإقصاء كل معارضيها وفرض ما تراه من نمط حياة مذل على شعوبها.

لقد جرب العرب الأمم المتحدة ومجلس أمنها منذ نكبة فلسطين حتى نهوض الربيع العربي، وخبروا جيداً ماهيتها وعجزها المزمن عن لعب أي دور جدي ينصفهم، وتالياً عن القيام بالواجب المفترض لها أن تقوم به وفق الشرائع والقوانين التي أنشئت على أساسها، ولعل تفاقم المعاناة وما تكابده غالبية الشعوب العربية شكل أحد الحوافز والمحركات التاريخية لكشف بلادة المنظمة الأممية وفضح الدوافع الأنانية لمن يوظف مجلس الأمن في خدمة مصالحه الضيقة دون أن يعبأ بأرواح الناس، حتى غدا اسم الأمم المتحدة ومجلس أمنها ومن يعول عليهما محط ازدراء وسخرية.

ربما يصيب من يدعو الى القطع تماماً مع النظام الأممي الراهن ويعتبره نموذجاً لتجديد إدارة الأزمات، وليس لمعالجتها من جذورها، منتقداً سيطرة دول قليلة تملك حق الفيتو على قراراته بما يخالف مبدأ المساواة في المشاركة والتمثيل والتقرير، وربما لا يخطئ من يميز بين وجهين للمنظمة الأممية، وجهها القانوني، ويتضمن ما راكمته الأمم المتحدة ومجلس الأمن من معاهدات ومواثيق وقوانين، هي واجبة الاحترام لما تحمله من قيم الحرية والعدل والمساواة، ثم وجهها السياسي البغيض، الذي تكرسه توازنات القوى القائمة وبخاصة بين الدول الكبرى، وما تفرضه في لحظة محددة من قرارات تجاه حدث معين على حساب مصالح الشعوب الضعيفة وحقوقها، مثلما يصيب من يطرح تساؤل، فيما إذا كانت معاناة المضطهدين على سطح هذا الكوكب ستبقى على هذه الصورة المؤلمة ذاتها، وتبقى حقوقهم وحيواتهم مستباحة من كل طامع، لو كان للإرادة الأممية كلمتها النافذة في محاصرة الاستبداد ولغة القهر والقمع وتمكين الناس من تقرير مصيرهم، وهو التساؤل الذي خلق بدوره خياراً يقوم على إثارة الأفكار حول أهمية نقد وتجديد بنية المنظمة الأممية، ولخلق رأي عام واسع يحاصر نوازع الاستئثار والأنانية ويحفز دور القوى والفاعليات التي تتشارك القيم الإنسانية ولها مصلحة حقيقية في عالم آمن لا ظلم فيه ولا عنف ولا تمييز!

شارك المقال