حين يخاف الحزب القوي

علي نون
علي نون

بعض المعادلات المنطقية والحسابية تفيد بأن الصوت العالي لا يعبر بالضرورة وأحكامها عن قوة صاحبه وعلو كعبه دائماً، بل العكس هو الصحيح. والأداء المذكور في بعض الحالات والأوقات الحرجة، لا يكون سوى محاولة لتمويه واقع الحال المناقض، عبر إرسال برقية سريعة تقول إن القوي لا يزال قوياً، والدليل: هو ذلك الصوت المدوي! تماماً مثل الذي يمشي في الليل بين المقابر فيروح يغني ويصفّر عالياً من شدَة رعبه!

…وارتفاع نبرة الصوت عند المعتاد على استخدام العنف وافتراضه حلاً اختصارياً حاسماً لكل معضلة ومشكلة وقضية عويصة، لا يعني تحديدا، سوى عجز فاضح عن الاداء المعتاد ذاك! بما يعني ايضاً بأن صاحب الصوت في لحظة ضعف اكيدة، وان المكابرة والمناورة والتمويه لا تغيّر قناعات الآخرين بغير ذلك، ولا تدفع بهم الى تغيير سلوكهم بل تثبيته ما دام أنه مثمر.

وهذا (والله أعلم) ما يستشفه من سمع التهديدات غير المسبوقة التي أطلقها احد كبار مسؤولي “حزب الله” السيد هاشم صفي الدين ضد ما سماه الوجود الاميركي داخل بنيان الدولة اللبنانية… والذي اكتشف صاحبنا بأنه كبير وخطير! وبأن حزبه يعرف في اللحظة المناسبة كيف يتعامل معه، وفي ذلك تطور غير مسبوق برغم كل ما حصل ويحصل في بلدنا العزيز! باعتبار أن السردية العادية والمألوفة كانت تتمحور عند اتهام الأخصام السياسيين اللبنانيين الكثر بالتبعية أو العمالة للأميركيين، ومن خلفهم الاسرائيليون ومن خلف الجميع دول محور الاعتدال العرب! وان هؤلاء جميعا منكبّون انكباباً مكيناً ومحكمًا على توليد المؤامرات وحياكة ألاثواب التي تغطيها بألوان سيادية او وطنية او مدنية مجتمعية، ضد المقاومة ومحور الانتصارات الالهية! وكان القول يذهب في ذروته الى اتهام هؤلاء المحليين بالارتباط بسفارات تلك الدول المتآمرة!

في مراتٍ قليلة كانت الخطابات تذهب مباشرة الى ساكني تلك السفارات، مثلما صار في الاونة الاخيرة عند التعرض للسفيرة الاميركية في بيروت بكلام كيدي واتهامي على خلفية ادخال المازوت الايراني والغاز المصري ، لكنه بقي دون سقف التهديد المباشر او غير المباشر… اقلّه في العلن، وهذا العلن قد لا يكون ذاته في العتم! وهذا إحتمال وارد جدا طالما ان السفيرة الاميركية اختارت للمرة الاولى منذ عقود ان تكسر المحرمات وتجلس علنا في أحد مقاهي شارع الحمراء! وكأنها (والله أعلم) تقول إنها لا تأبه بأي تهديد! ولا تقبل أي وعيد! او هذا ما يمكن أي مراقب ان يستشفه من خطوتها العلنية تلك المناقضة لكل الاجراءات الأمنية الصارمة والاستثنائية المتبعة في تحركاتها.

والدقّة تفرض الاستدراك: الكلام هنا يفسّر ويحلّل ظواهر الامور، ولا يستند الى إي معلومات محددة لا من هنا ولا من هناك!

…كلام السيد صفي الدين عن الحضور الأميركي “داخل “الدولة اللبنانية، غير المألوف وغير المسبوق (مجدداً) وُضع في سياقين محددين: الأول هو القضاء وتحديداً في قضية التحقيق العدلي في انفجار المرفأ، والثاني، وربما الابرز والاخطر، هو الجيش… في ضوء الاهتمام الاميركي الكبير والطبيعي بالمؤسسة العسكرية وغيرها من المؤسسات الامنية الشرعية، وفي ضوء الانهيارات المالية والاقتصادية الضاربة في كل اتجاه، والضرورة الحاسمة لإبقاء تلك المنظومة برمتها عاملة وفاعلة وبعيدة من التفكك الذي لا يمكن تصور تبعاته اذا حصل… كلام التهديد الذي ذهب في الاتجاهين المذكورين يدفع الى الظن أن “حزب الله” مأزوم وليس مرتاحاً، وقلق وليس مطمئنًا، ويبدو وكأنه فقد القدرة على “التحكم والسيطرة” تبعاً لمستجدات الانهيار الوطني العام الذي طاول بيئته مثل غيرها، ويهدد بتداعيات لا حصر لها ولا قدرة على لجمها… مثلما يدل على تراجع الخيارات المتاحة امامه لجبه وكسر التحقيق بانفجار 4 آب (اغسطس) ثم لإبقاء “التدخل” الاميركي في شؤون العسكر والأمن الشرعيين تحت السقف التعايشي الذي كان سابقاً…

لكن ما كان سابقاً راح واندثر! وأحكام الضرورة تفرض منطقها، وهذا يعني تطويراً لا بد منه في تلك العلاقات، وهو على ما يبدو يعني وجع رأس للحزب! ومدعاة لقلق أكيد يستوجب إطلاق ذلك النوع من التهديدات الكبيرة، من دون أن تؤتي ثمارها أو من دون توقع تأثيرها الأكيد. هذه المرة كشف الحزب ضعفه بنفسه: اراد ويريد القول انه غير مهتم وغير مهموم وغير متوجّس فإذ بالرسالة تؤكد العكس! والمعضلة الان هي ان “خياراته” قليلة ومنكمشة وتحت الضوء، واعتمادها سيعني أخذ البلد كله الى زوايا أخطر من تلك التي استجدت غداة جريمة الغدر بالرئيس الراحل رفيق الحريري… الخطوة الغلط هذه المرة ستنزل على واقع متشظً ومنهار بكل المقاييس، أي بالسياسة والمال والاقتصاد ومؤسسات الدولة والعلاقات بين المذاهب والطوائف والقوى السياسية على تنوعها وحساباتها واستنفاراتها، ولا يحتاج الأمر سوى الى دفشة اضافية واحدة كي يدخل الجميع في أتون لا تحمد عقباه ولا أبعاده ولا معانيه…

هذا حزب له طريقته الخاصة في القراءة والتحليل والتفسير والاستنتاج، لكنه هذه المرة يبدو كغيره من الذين عاينوا ذروة الانتصار ثم انكسروا مباشرة… واكتشفوا بعد فوات الاوان ان القراءات الخاصة في بلد مثل لبنان، لا تعني شيئاً عاماً ولا توصل سوى الى الانتحار!

شارك المقال