المسيحيون ينزفون…

جورج حايك
جورج حايك

يعيش المسيحيون في لبنان حالة شرذمة خطيرة تهدد وجودهم العميق في هذه الأرض الذي يعود إلى 2021 عاماً: لا رؤية واحدة، لا استراتيجية واحدة، من رئاسة الجمهورية، مروراً بالقوى السياسية الأساسية، وصولاً إلى أصغر موظف مسيحي في الدولة اللبنانية. المسيحيون ينزفون والعيش المشترك متوعك والدولة ضعيفة، وهذا أمر بديهي، لأن المسيحيين أضاعوا البوصلة في ذروة المواجهة مع مشروع فئويّ يُهدد بتغيير وجه لبنان الحضاري والسيادي، وعندما تقاعس المسيحيون على خط المواجهة، لم يظهر لدى المكوّنات الطائفية الأخرى من يُعتمد عليه لحمل الشعلة، والسبب غياب المشروع البديل أو ضعف العزيمة أمام انشاء جبهة سيادية عابرة للطوائف تضع حداً لرهان “حزب الله” على محور اقليمي تقوده ايران ارضاء لرغبة دفينة بالهيمنة على دول المنطقة وتهديد استقرارها وتغيير بيئتها ووجهها العربي الأصيل، ويبدو لبنان إحدى ضحاياها.

صحيح أن المسيحيين اعتادوا، عبر التاريخ، أن يتمردوا على كل أنواع الاحتلالات، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل سيادة لبنان واستقلاله، إلا أنه لم يسبق لهم أن مروا في حالة انقسام وفوضى سياسية كالتي يعيشونها اليوم.

هؤلاء المسيحيون الذين كانوا حماة الكيانية اللبنانية السيادية تحوّلوا في رهاناتهم الخاطئة متحالفين مع مصدر الخطر على الكيان، ومن الواضح أنه أصابتهم أعطاب عديدة أهمها:

العطب الأول في عهد ميشال عون الذي أوصله “حزب الله” إلى موقع رئيس الجمهوريّة، وبات “الحزب” من خلاله يتحكّم بكل صغيرة وكبيرة في البلد، فهو يعطي الأولويّة للغطاء المسيحي الذي يشكّله الثنائي عون – باسيل لسلاحه غير الشرعي، وهو سلاح في خدمة إيران. لا ترى إيران في لبنان سوى ورقة من أوراقها الإقليمية. تستخدم هذه الورقة، مثلما تستخدم اليمن وسوريا والعراق في ضغطها على الإدارة الأميركية من أجل العودة إلى الاتفاق النووي الموقّع في العام 2015 ورفع العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترامب على “الجمهوريّة الإسلاميّة”. فأين مصلحة المسيحيين في كل هذا التموضع المخالف لطبيعتهم وثوابتهم التاريخية؟

لا يبدو عون معنياً بما يمرّ فيه لبنان وذلك منذ انهيار النظام المصرفي ومنذ تفجير مرفأ بيروت ومنذ غياب الكهرباء والوقود في المحطات… ومنذ لم يعد لبنان جامعة الشرق الأوسط ومركزه الإعلامي وبيروت المدينة التي يطمح إلى زيارتها كل عربي وأجنبي. فالمسيحيون لا يمكنهم ان يعيشوا في اجواء غير نهضوية، ولا يمكنهم العيش في ظل مشاريع لها خلفيات عقائدية دينية، ولا يمكنهم التضحية بانتمائهم إلى العالم الحر المتطور والعصري لمصلحة أنظمة لا تعترف بحقوق الانسان ولا تنتمي إلى النظام العالمي.

يعيش عون في الأوهام، محاولاً استعادة تاريخه السياسي والنضالي والطائفي مستقوياً بموقعه وفائض القوة لدى “حزب الله”، إلا أنه لا يسير نحو تأسيس أجواء توافقية أو تسووية، ولم يتأسس نهجه على صناعة الشراكة، وإن كان الجميع يتحملون مسؤولية ما آل إليه الوضع اللبناني من فوضى وانهيار. يدل ذلك على أن التمركز في السلطة أو في موقع الرئاسة الأولى لا يمكن أن يستند في البنية اللبنانية وفي تركيبتها إلى قوة حزبية لأنها تذهب إلى التسلط والإقصاء، وتؤدي إلى الاصطفاف في المواقع الأخرى، وهذا ما يحدث حالياً في الحزبية العونية التي تعبّر عن مواقف الرئيس وتندمج معه في المعارك التي يخوضها ضد الخصوم، وهم قسم من الطوائف ومن القوى التي لها مصالح في هذه البنية التي وصلت إلى حافة الهاوية. فمنذ متى كانت الرئاسة الأولى معزولة عن المجتمع الدولي والخليجي كما هي اليوم؟ ولا يخفي بعض الدبلوماسيين الدوليين أنّهم اصطدموا بـ “موفدي عون”، حتى ذهب البعض منهم إلى حدود مصارحتهم بأنّ ما من أحد يمكن أن يؤذي موقع المسيحيين في النظام أكثر من السياسة التي يتّبعها عون نفسه. حتى انه لم يقم الا بزيارات معدودة إلى الخارج! لا هدف لدى عون و”حزب الله” سوى السيطرة على القرار أو محاولة الهيمنة والانقلاب على الدستور، وهذا ما تبدو تكاليفه باهظة على المسيحيين والبلد، وقد يؤدي إلى فتح الطريق أمام مؤتمر تأسيسي يمهّد إلى المثالثة، فهل هذا ما يريده المسيحيون، أي خسارة المناصفة لمصلحة المثالثة؟! أين مصلحة عون إذا لم يبقَ مسيحي واحد في لبنان؟ سيظلّ عون وصهره يناديان بـ”حقوق المسيحيين” في لبنان حتّى لو لم يبقَ مسيحي واحد في البلد…و يظلّ الوصول إلى قصر بعبدا، بأيّ ثمن كان، أهمّ بكثير من منع تهجير المسيحيين من البلد!

العطب الثاني ناجم عن تشتت القوى السياسية المسيحية من دون الارتقاء إلى درجات الوعي والحسّ بالمسؤولية تجاه المسيحيين وحضورهم في الوطن المهدد بالزوال، وكأنها تهوى الدمار الذاتي. هذه القوى ليست بحاجة إلى اعداء، إذ تنفّذ ما يطلبه العدو، والصراع الدائم على السلطة بينها يبيح المحظورات ويتخطى الحدود الحمر الواجب الوقوف عندها حفاظاً على ما بقي لها، وتأسيساً لمستقبل أفضل.

تتوزع القوى السياسية المسيحية بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” و”المردة” و”الكتائب” و”الوطنيين الأحرار” ومجموعات مدنيّة وشخصيات مستقلة. لكن المفارقة أن أكثرية هذه القوى غير منسجمة مع بعضها البعض، وإن وجد تحالف بين اثنين منها يتكتل البقية ضدهما، وهكذا دواليك. فيما الواقع المسيحي الشعبي لا يعيش ترف الاختلاف، ويحتاج إلى تكاتف هؤلاء بل الخطر الوجودي الذي يتهدد لبنان نتيجة مشروع “حزب الله”، والذي يتطلب رؤية مسيحية موحّدة بعيدة من المناكفات والشرذمة. التيار الوطني الحر خياراته بعيدة من الطموح السيادي التاريخي للمسيحيين، والمردة لا يختلف عنه، مع ذلك، فهما مختلفان في نظرتهما إلى السلطة. أما القوات اللبنانية فلم تغيّر ثوابتها ومبادئها، لكن كل القوى المسيحية الأخرى تتجنّب الاتفاق معها. فحتى الكتائب التي تعتبر تاريخياً توأماً للقوات وتتفق معها على استراتيجية واحدة، إلا أنهما يختلفان على تفاصيل ادارة المرحلة السياسية، فيما المجموعات المدنية والشخصيات المستقلة تلاحقها لعنة الأحجام وتبدو غير منسجمة مع بعضها البعض!

أمام هذا الواقع الرهيب، نجد أن البطريرك مار بشاره بطرس الراعي يحمل مشروع الحياد ويطالب بمؤتمر دولي من أجل لبنان. لكن البطريرك ليس رجلاً سياسياً ويحتاج إلى رافعة سياسية مسيحية كبيرة تمد الجسور مع الشركاء السياديين في الوطن لحمل المشروع إلى الخارج ومواجهة مشروع “حزب الله” الخطير. لكن، لا المسيحيين شكّلوا هذه الرافعة، ولا المسلمين التقوا بهم في منتصف الطريق، ولعنة الانقسام مستمرة. فقد قام حزب الوطنيين الأحرار بمبادرة لإنشاء جبهة سيادية تدعم ما يطالب به البطريرك من حياد ومؤتمر دولي، رحبت بها القوات اللبنانية وبعض الشخصيات إلا أن الكتائب قاطعتها، وهذا أبرز دليل على لعنة التشرذم! فكيف نوجّه دعوة إلى البابا فرنسيس لزيارة لبنان، ونحن على هذه الحالة من الشرذمة؟ وبأي وجه نستقبله فيما نحن نعمل عكس وصية المسيح: “أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا احببتكم”؟

العطب الثالث هو الهجرة المسيحية الواسعة وغير المسبوقة التي يشهدها لبنان في عهد عون وخصوصاً منذ الانهيار الاقتصادي وانفجار مرفأ بيروت. وتظهر الإحصاءات أن ما يفوق الـ40 في المئة من الشباب المسيحي هاجر، وثمة ارقام عالية من العائلات المسيحية أقدمت فعلاً على الهجرة، بعضها هجرة موقتة إلى الدول العربية أو الأوروبية للعمل ومتابعة الدراسة، وبعضها الآخر هجرة دائمة إلى أوستراليا وكندا والولايات المتحدة.

إلا أن ما يجعل مخاوف المرجعيات المسيحية هو في عدد الهجرة الأكبر مقارنة ببقية الطوائف، وانخفاض عدد سكّان لبنان بشكل كبير منذ آخر إحصاء رسمي. فبينما كان المسيحيون يشكلون في عام 1932 نسبة 58 في المئة من اللبنانيين، مقابل 42 في المئة من المسلمين، انقلب المشهد تماماً في عام 2018؛ حيث انخفضت نسبة المسيحيين إلى 30.6 في المئة، وارتفعت نسبة المسلمين إلى 69.4 في المئة، بحسب إحصاء لـ”الدولية للمعلومات”، وربما تراجعت نسبة المسيحيين أكثر خلال هذه السنة، وبالتالي، بات هناك خلل ديموغرافيّ اليوم في لبنان!

في وطن الأرز ميزة غير موجودة في العالم كلّه، وهي التعدديّة الدينيّة والثقافيّة والحضاريّة. فإذا فُقد الوجود المسيحيّ في لبنان، فإنّه لن يعود كما كان، لأن الحضور المسيحيّ ضروريّ من أجل التوازن في اطار التعددية. ومن المهم أن يكون الدور المسيحي في لبنان ناشطاً وفعالاً، إنْ في الحقل المالي والاقتصادي والمصرفي أو في الحقل الثقافي والتربوي والاستشفائي، وفي حقول أخرى. لكنه، ويا للأسف، يتراجع اليوم بسبب أداء بعض السياسيّين المسيحيّين الذين دفعوا في اتجاه إضعاف الدور المسيحي، أو وضعه في محور العداء للدول العربية والمجتمع الدولي. هذا الواقع خلق للمسيحيين تحدّياً معيشيّاً في ظروف اقتصاديّة يعيشونها للمرة الأولى منذ اعلان استقلال لبنان عام 1943، وبالتالي لا يمكن المسيحيين أن يعيشوا في إطار غير نهضوي، وفي غياب رؤية استراتيجية تعيد التوازن لدورهم الزطني.

شارك المقال