مشاهدات من الرياض: حياة جديدة برؤية طموحة

علي البغدادي

كان واقع حال العاصمة السعودية الرياض مختلفا عن ما ترسخ في الاذهان منذ سنوات من صورة نمطية عن مكان يعيش حياة رتيبة بايقاع بطيء.

ويلمس زائر الرياض ان المدينة تعيش تحولا كبيرا او “ثورة” حقيقية في مختلف نواحي الحياة يجعلها تنمو يوما بعد آخر ومعها ينمو الامل بغد جديد لمدينة تريد ان تعيش بصورة طبيعية كغيرها من عواصم العالم .

جاءت رؤية 2030 لتضع المملكة العربية السعودية على سكة التطور فالواقع الجديد لم يألفه سكان الرياض او سكان المملكة وهم يتحسّسون تحسنا مضطردا في مستوى جودة الحياة وتقدما متسارعا يسابق الزمن للوصول الى اهداف الرؤية وتحقيقها على ارض الواقع.

بات واضحا لكل من يزور الرياض او اي مدينة اخرى ان شعور الشباب والشابات وهم الشريحة الاكبر في المملكة بما يمكن تسميته “الروح القومية السعودية” كان طاغيا فنبرة الحماسة والاعتزاز بهذا الانتماء يغطيان على ما سواه لكونهم باتوا يدركون ان ما حصل خلال السنوات الخمس الماضية لم يكن من السهل حصوله لولا الرغبة الجامحة نحو التغيير والاصلاح التي جسّدتها سياسة الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الامير محمد بن سلمان.

يتفاعل الشباب السعودي بالحديث ايجابيا عن ولي العهد لكونه المساهم والمساند لكل جهود التطور واحداث التغيير في الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلد النفطي الاغنى بالعالم، واعتبار ان الاستثمار الحقيقي هو في الانسان قبل غيره من هنا جاءت الثقة باغلب الاجراءات التي تم اتخاذها ونقلت المملكة من حال إلى آخر.

وخَفُتت خلال السنوات الاخيرة بشكل كبير “خطابات التطرف” لبعض رجال الدين الاصوليين الذين وجدوا في ازمات المنطقة فرصة لحشد الشباب وتعبئتهم واشراكهم في الازمات لتحقيق اهداف مشبوهة لتقطع الحكومة السعودية الطريق امام هؤلاء وتعيد الاعتبار لخطاب الاعتدال والتسامح الى جانب منح الفرص امام الشباب المتطرف للانخراط في المجتمع مجددا بشكل يساهم في التنمية والانفتاح.

ومثل الاستثمار في البشر رهانا صحيحا، فاولى خطوات النجاح تحمل اعباءها المبتعثون للدراسة في الخارج وهم بعشرات الآلاف في مختلف الاختصاصات ممن كانوا “الدينامو” والمحرك الاساسي لكل ما تعيشه المملكة من واقع آخر غير الذي كان سائدا، فدخلوا سوق العمل بكل ثبات واريحية وتحدي فكانت “سعودة” الوظائف فرصة ثمينة لاظهار القدرات والقابليات في مجالات كانت حكرا على الوافدين الذين ساهموا ايضا في بناء السعودية على مدى عقود لكن واقع الحياة وضغوطها وارتفاع معدلات البطالة والبحث عن فرص عمل كان لها الاثر في تغيير النظرة لملف التوظيف الذي اصبح يحظى بالاولوية.

اما النساء فيمكن القول انهن يشهدن “عصرهن الذهبي”، فاكبر المتفائلين لم يكن ليصدق سرعة ما حصل من تغيير مدعوم من القيادة السعودية في ملف كان محل “ابتزاز” غربي حتى وقت قريب، فخطوات تمكين المراة تحقق نجاحا تلو الآخر وفقا لما هو مخطط له سواء على مستوى التعليم او على مستوى قطاع الخدمات كالفنادق والاسواق التجارية والمطاعم او المؤسسات الطبية وحتى الاعمال البسيطة كان للمراة وجودا فيها، فاصبحن يتحملون مسؤولية تشاركية مع الرجل في تحمل اعباء الحياة او اعباء عوائلهن وهي نظرة وعي لم تكن سائدة في المجتمع السعودي الذي كان يضع قيودا على عمل المرأة او خروجها من المنزل.

وحتى وقت قريب لم يكن مألوفا منظر المراة السعودية وهي تقود السيارة في شوارع الرياض او المدن السعودية الاخرى، فسواقة السيارات اصبحت حالة طبيعية ومألوفة من دون ان تثير اي سجال وجدل سواء في الاوساط الشعبية او الدينية. الاغلب تقبل التحولات الجارية في السعودية بعد سنوات من التضييق وسطوة المؤسسة الدينية التي تلاشت قبضتها منذ اصبح الامير محمد بن سلمان وليا للعهد عام 2017 والذي يشرف شخصيا على اصلاحات اقتصادية واجتماعية ودينية جذرية.

وتريد المملكة العربية السعودية حجز مكان لها بين الدول الاكثر وجهة سياحيا إذ يصب موسم الرياض الذي بات قريبا وقبله معرض الرياض الدولي للكتاب وفعاليات ثقافية اخرى باتجاه دعم السياحة في المملكة ضمن رؤية 2030 الطموحة التي تهدف لاستقطاب 30 مليون سائح سنويا خلال السنوات التسع المقبلة، فتم منذ مدة اقامة الحفلات الغنائية ووضع حد لحظر الاختلاط بين الرجال والنساء ومنع “المطاوعة” من التدخل في شؤون الناس في الشوارع وفي كل مكان وهو ما كان سائدا لعقود الامر الذي يدفع السعوديون الى التوجه نحو الخارج للترفيه والاستجمام بحرية أكبر.

ويتواجد في موسم الرياض 14 منطقة للترفيه تضم 7500 فعالية وممشى بطول 3 كيلومترات وأكثر من 200 مطعم ومقهى ومتجر و4 مسارح وأرينا عالمية و500 لعبة إلكترونية و9 استوديوهات عالمية بالإضافة إلى ملعب غولف و12 ملعب بادل تنس وأول وأكبر سكاي لوب متنقل في العالم.

وتنتشر في عدة مناطق من مدينة الرياض ومنها “واجهة الرياض” المطاعم الفخمة والكافيهات العالمية التي تتيح للزبائن الاختلاط وتدخين الاركيلة سواء للرجال او النساء او مشاهدة المباريات المهمة وهو وضع لم يكن متاحا قبل سنوات قليلة كما لم يعد ركوب الفتيات للدراجات الهوائية او الجري في المناطق المفتوحة مشهدا مستغربا في العاصمة.

والالتزام بالقانون يمثل احد اهم الميزات في حياة السعوديين خاصة ما يتعلق بالسير كما ان التعليمات الصارمة والاجراءات الاحترازية جعلت السعودية من ضمن الدول الاقل اصابة بفيروس كورونا، فدخول السعوديين الى المراكز التجارية والاسواق واماكن الترفيه والمؤسسات الحكومية اقتصر على من يمتلك “بطاقة توكلنا” التي تفيد بحصول حاملها على جرعتي التطعيم ضد الفيروس وهو اجراء يدفع رافضي التطعيم الى الحصول عليه.

ويشغل الاهتمام بالتراث والآثار حيزا كبيرا لدى القيادة السعودية، فالمناطق والاحياء القديمة في العاصمة الرياض اخذت نصيبها من التطوير والتجديد بشكل يعيدها الى ماضيها الاصيل ويجعلها مكانا مفضلا للسائحين، فمدينة الدرعية وحي الطريف اول عاصمة للعائلة الحاكمة تشهد حملة اعادة اعمار ضخمة لجعلها واحدة من اهم الوجهات الثقافية لتتيح الى الزائرين الولوج نحو رحلة تاريخية الى القرن الثامن عشر والتمتع برؤية المساحات المفتوحة والابراج والازقة والمتاحف. كما ان زيارة قصر “المصمك” التاريخي الذي يعود الى عام 1865، والذي انطلق الملك عبد العزيز منه لتوحيد الممالك والاقاليم التي تتكون منها السعودية الآن، يتيح لزواره التعرف الى تاريخ المملكة العربية السعودية من منازل الطين وابراج المراقبة وحتى القلعة التي تحولت الى متحف تدلل على عمق الاهتمام بجعل المدن التراثية رافدا يساهم في الترويج للسياحة في المملكة لكونها احد روافد العائدات المالية للميزانية السعودية من ناحية تنويع مصادر الدخل.

واندمجت المملكة في الاقتصاد الرقمي الذي كانت جائحة كورونا فرصة للتوسع فيه، فاستخدام “البطاقات” بدلا من المال “الكاش” اصبح سمة سائدة في التعاملات المالية في البيع والشراء. كما ان اغلب معاملات السعوديين تحولت الى الحالة الالكترونية، فالكثيرون لم يستخدموا الاوراق النقدية منذ اشهر طويلة وبعضهم منذ سنوات وهذا الامر ينسحب حتى على اصحاب مركبات الاجرة التي بات اغلبها مقتصرا على تطبيقات محددة تتيح للزبائن التنقل من مكان الى آخر.

وتحولت الرياض واقعا الى ورشة عمل كبيرة لتتفيذ مشاريع ضخمة استراتيجية من بينها استكمال اعمال البناء في مركز الملك عبد الله المالي الذي يعد من أكبر المشاريع القائمة والوحيد من نوعه في الشرق الاوسط حيث ستصبح الرياض عاصمة الشرق الأوسط الاقتصادية، ويوجد في هذا المركز عدة قطاعات وأكثر من 59 ناطحة سحاب على مساحة تبلغ 1.6 مليون متر مربع تضم المقار الرئيسية لهيئة السوق المالية والسوق المالية والبنوك والمؤسسات المالية.

والى جانب شبكة الطرق السريعة الضخمة، يعد “مترو الرياض” من بين المشاريع الاستراتيجية المهمة المقرر افتتاحها هذا العام ويتكون من ستة خطوط رئيسية تخترق العاصمة من جميع الاتجاهات وبسرعة تقدر بـ 80 كلم بالساعة وطاقة استيعابية تصل إلى 1.16 مليون راكب يوميا ويضم 85 محطة، بكلفة تبلغ 22.5 مليار دولار.

كما تحظى البيئة والمساحات الخضراء باهتمام القيادة السعودية فالعمل يتواصل في حديقة “الملك سلمان” على أرض المطار السابق بمساحة مقدارها 13.4 كيلومترا مربعا لتكون اكبر حدائق المدن في العالم بمساحة تعادل خمسة اضعاف حديقة هايد بارك في لندن وأربعة أضعاف حديقة سنترال بارك في نيويورك بهدف إنشاء مجتمعات مستدامة والمساهمة في تحسين الطقس واستحداث ما يصل إلى 70 ألف فرصة عمل جديدة.

ومع ان الطريق ما زال طويلا امام الوصول الى النتائج المرجوة الا ان التطور في المملكة العربية السعودية بات يقاس بالاشهر لا بالسنوات، وهو جاء في سياق امتلاكها لرؤية ومسارات واضحة على الرغم من اضطراب اوضاع الشرق الأوسط وآثاره على الواقع.

شارك المقال