“بدو يكحلها… عماها”!

علي نون
علي نون

لم تحكم الأرقام اللبنانيين ولم تتحكم بهم، أقله في شأن التوزيع الديموغرافي لهم، لطوائفهم ومذاهبهم ثم لتشكيلاتهم الحزبية، ثم الأهم من ذلك كله لتقسيم السلطة في ما بينهم، بل إن المعلوم والمحسوم هو أن التواطؤ الايجابي أثمر قبولاً عاماً بالواقع الموجود ووضع الرقم على الرف… بعد اتفاق الطائف تحديداً.

قال الرئيس الراحل والرائد رفيق الحريري في مراتٍ عدة “أوقفنا العد”، وهو في ذلك كان يردّ على مغالاة وقصر نظر جماعات متفرقة ومتنوعة ومن كل المذاهب والطوائف استمرأت الجلوس وراء الأرقام لتبرير شططها: الأولى إسلامية لا تعجبها عملية توزيع المناصب والمواقع الدستورية وفق الآليات المتبعة التي كرسها الطائف، والثانية مسيحية لا تعجبها “كثرة” الآخرين وتريد وضعاً خاصاً متجانسًا بحيث يبقى كل فريق في مكانه، و”يحكم” نفسه بنفسه…

والاثنتان وليدتا الحرب وتبعاتها وآلامها، ثم وليدتا تعبيرات متطرفة خاصة موجود مثلها في كل مكان… والاستثناءات المثالية في هذا القياس ليست مثالية سوى لاصحابها: إسرائيل دولة اكثرية دينية يهودية وايران دولة اكثرية دينية شيعية، وما بينهما معظم دول الارض التي وضعت القياس المدني وليس الديني في اجندتها الدستورية والكيانية بكل تفاصيلها. فكان الحاصل هو انهما أكثر دولتين منبوذتين بالمعنى القيمي الخاص بحقوق الإنسان بعدما اندثر نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا منذ نحو ثلاثة عقود.

وحديث الارقام في لبنان كان دائماً حديثاً بنكهة محلية خاصة، إذ إن الرقم في الشأن المالي والاقتصادي مثلاً هو وجهة نظر سياسية (وطائفياً أحياناً) أكثر من كونه تعبيراً رياضياً علمياً وحاسماً… والرقم في البنيان الوطني العام لا يعني شيئاً طالما انه قد يوصل الى عكسه، اي الى تصفير البنيان وتشليعه وتمزيقه وجعله في الاجمال، تحت الصفر تماماً! ولذا، لا بأس من الإقرار بأن اللاعب بالارقام لا يعرف الحساب اللبناني! ولا التركيبة الوطنية في سطحها وعمقها، مثلما لا يعرف الاتّعاظ من مقارنات رقمية عامة لا تسر خاطره ولا تتناسب مع قياسات ومعادلات الحسابات الناشفة: إسرائيل (مثلاً!) تضم بين جدرانها عدداً مليونياً من السكان لا يتجاوز عدد اصابع اليدين، فيما ان امة العرب والمسلمين تضرب بأرقام شعوبها سقف 1.300 مليون نسمة! ومع ذلك، وعلى الرغم منه وعنه، لا تتغير المعادلة الموجودة ولا تنزاح ولو قليلاً باتجاه شيء من العدالة للفلسطينيين!

واكثر من ذلك (والله اعلم)، ربما لا يُفطن اللاعب بالأرقام الى أساسات في العقيدة الدينية عينها مع انه متبحر فيها، ولا تنقصه معرفة مثلى في علومها ومعانيها! بحيث تغيب عنه، في وعيه ولاوعيه، حقيقة إن الرساليين الاوائل، الانبياء والرسل والأولياء الصالحين كانوا في أزمانهم الاولى وبداياتهم الصعبة، قلّة قليلة بين اقوامهم وأممهم وشعوبهم وقبائلهم! وربما لو اعتمدوا القياس والحساب المعتاد، لمًا انتصرت رسالاتهم على الزمن والجغرافيا، ولما وصلت الينا والى شعوب الارض قاطبة!

… والغريب العجيب في المثال المفتوح راهناً بعد موقعة الطيونة، هو ان المتدثر بها لتغطيه هواه السياسي واجندته المأزومة وارتباكه إزاء تعقيدات ومستجدات كثيرة، لم يجد لتتويج خطاب “صعق” الخصم وإرعابه ورفعه الى سوية العدو التام، سوى لغة العدد والرقم وبطريقة بدائية لا حصافة فيها ولا فصاحة، فوقع مرة اخرى في المعادلة المكسورة: بدلاً من ان يظهر بأسه وقوته أظهر ضعفاً وهشاشة! وبدلاً من ان يكسر جناح الخصم او العدو، اعاد تجبير المكسور منه! وبدلاً من ايصال رسالة ردع زاد الاستنفار استنفاراً! وبدلاً من طمأنة الأتباع والحلفاء جعل منهم منبوذين بين اهلهم! وبدلاً من تهدئة الخواطر أشعلها غيظًا والتهاباً وتوجسًا! وبدلاً من تثبيت لائحة الاتهام والافتراء بحق الذي يتهمه ويفتري عليه أخرج بنفسه حكم البراءة له! وبدلا من شيطنة ذلك الآخر جعل منه ملاكاً في عيون اهله وربعه ومن هم من غير اهله وربعه! وبدلاً من تطرية المناخ السياسي العام جعله أكثر سماكة وتصلباً! وبدلاً من تأكيد مدنيته واحتكامه الى القانون ثبّت حربيته وخروجه عن كل قانون! وبدلاً من تسويق شعار العزل المنحوس والمقيت فتح ابواب الرحابة والتفهم على وسعها! وبدلاً من توصيل رسالة الاحتكام الفعلي وليس الصوري والبلاغي الى المؤسسات الدستورية والرسمية، راح الى ايصال رسالة الممعِن في اعتماد قياساته الحزبية الخاصة والضيقة، والى تأكيد كونه ومشروعه وارتباطاته الايرانية، المسبب الاول لأفدح الأخطار على السلم الاهلي!

وكأنه كان ينقص اللبنانيين سبب إضافي لزيادة قنوطهم وعذاباتهم الراهنة، فجاء من يعيد نبش التاريخ في أشنع محطاته ثم التأسيس لشناعات محتملة آتية أمرّ وأقصى بمئة ألف وأكثر!

شارك المقال