لبنان، نار تحت رماد!

اكرم البني
اكرم البني

أحداث الطيونة، تداعيات ملف التحقيق حول انفجار مرفأ بيروت، التردي غير المسبوق لحياة البشر وشروط عيشهم، ازدياد الاحتقان الشعبي والتأزم السياسي والطائفي، هي علامات تشير إلى أن انفجار الأوضاع في لبنان بات احتمالاً يطرق الأبواب، وأن عبارات التطمين التي درج استخدامها بأن الاقتتال الأهلي هو خط أحمر، صارت موضع ارتياب وشك، ما يعني أنه لم تعد من قيمة كبيرة للرهان على معاناة الماضي وآلام الحرب الأهلية، كرادع لاحتمال انفلات الوضع اللبناني نحو العنف ربطاً بصعوبة، تزداد كل يوم، للتوفيق بين تنازع مواقف الجماعات السياسية ومصالحها.

صحيح أن جذور النزاع السياسي في لبنان قائمة منذ أمد بعيد، لكن الصحيح أيضاً، وللآسف الشديد، أن ما يحدث اليوم يشكل بامتياز امتداداً لمرامي وصراعات إقليمية في مواجهة خيار الاحتكام للدولة ومؤسساتها، ما يعني أن دوافع تطور الخلافات البينية إلى احتراب داخلي، تتأتى من عوامل وتأثيرات خارجية وليس من أسباب داخلية، بل تظهر التفاعلات الداخلية اللبنانية أشبه بردود أفعال ومنازعات بين حصص ومشاريع سياسية إقليمية، أكثر مما هي صراعات لقوى متخندقة تدافع عن امتيازاتها الخاصة ومصالحها المباشرة، وأوضح تجلياتها ما يحاول أن يفرضه “حزب الله” على لبنان انسجاماً مع مطامع النفوذ الإقليمي الإيراني، وما يترتب على ذلك من مواقف وحسابات تتجاوز مصالح الشعب اللبناني، وتدفع الأجواء نحو المزيد من التطرف والتعنت، مغذية ردود افعال واندفاعات عنفية تهدد السلم الأهلي والاجتماع الوطني برمته.

أليس أمراً مشروعاً أن يتحسب اللبنانيون من المضاعفات السلبية لسلاح “حزب الله” على أمنهم وحيواتهم ومستقبل وطنهم، والأهم على مقومات السلم الأهلي، وتالياً أن ترفض غالبيتهم منح هذا الحزب حق التفرد في حمل السلاح واتخاذ قرار الحرب والسلم بعد حروب عديدة لم يرثوا منها سوى الخراب وتمكين “حزب الله” من تعزيز سطوته وهيمنته؟ وأنى للبنانيين أن ينسوا التداعيات الخطيرة لهجمة ميليشيا “حزب الله” على بيروت في 7 أيار 2008 وكيف كرر استخدام سلاحه وارهابه، ليس ضد إسرائيل، بل ضدهم وضد أخوتهم في سورية والعراق اليمن؟ كما أنى لهم أن ينسوا كيف يستثمر هذا الحزب، ومتى استدعت مصالحه، العواطف الشعبية الوطنية، لتوجيه الاتهامات بالعمالة لإسرائيل والغرب ضد كل من يعارضه، والأسوأ توظيف شعارات الممانعة البغيضة لإبقاء المجتمع في حالة استنفار، ولنقل في وضع استثنائي يشغله عن مهامه الطبيعية، ويكرس الأوضاع المهترئة وفساد القائمين عليها؟!

لكن التأثيرات الخارجية ما كانت لتتقدم لولا انحسار الروح الوطنية المشتركة لدى غالبية القوى اللبنانية لصالح خيارات أنانية ومقدار النفوذ الذي يحوزه هذا الحزب أو ذاك في توازنات السلطة، أو لمصلحة دويلات خاصة داخل الدولة يتغذى دورها من شبكة معقدة من المصالح تتمركز داخل الجماعات السياسية، منتهزة فرصة ضعف المجتمع المدني وضعف الدولة ومؤسساتها ومستقوية بجدوى لغة العنف والتهديد واستخدام القوة والإرهاب، ربطاً بتفشي حالة من اليأس والإحباط والعوز الشديد بين الناس تسهل نشر الأحقاد والكراهية والطعن بالآخر.

إذا كان المستفيد الأول من جر لبنان إلى حرب أهلية، هم أعداء الحرية، ومدمنو الإلغاء والإقصاء، فإن أكثر من يلجأ اليوم الى هذا الخيار ويمارسه هو القوى المستبدة التي تغولت بتسلطها وفسادها عميقاً، إلى جانب قوى أصابها العمى الإيديولوجي وتحبذ العنف وتمجده، تدعي ملكية الحقيقة المطلقة ولا يستحق من يخالفها العيش والحياة!

والحال، يبدو أن لا خير يرتجى في معالجة الأزمات اللبنانية الراهنة ووقف التدهور نحو الهاوية ما دام ثمة قوى لا يهمها سوى امتيازاتها وتحويل الوطن إلى ملكية خاصة، وما دام هناك رؤية قاصرة لمفهوم الوطن والوطنية تختزلهما فكرة مقاومة إسرائيل أو القوى الخارجية الطامعة، وتهمل الجوهري وهو العمل على صنع مجتمع حر ومتطور يعتز به ويشكل موضوعياً رابطاً قوياً بين الإنسان ووطنه وبينهما وبين المحيط الخارجي، وما دام ثمة جماعات تشجع اندفاع البشر نحو ملاذات متخلفة، طائفية ومذهبية وعشائرية، لتسهيل السيطرة عليهم، والأهم ما دام ثمة سلبية قاتلة تميز سلوك الناس حين يستسهلون التسليم والاصطفاف الأعمى وراء هذا الطرف أو ذاك.

يستطيع أي مجتمع إذا استشعر بشدة الخطر المقبل أن يفعل الكثير لاسترداد حيويته التي سلبها مدعو امتلاك الحقائق ودعاة العنف، وربما يبدأ الخلاص بفكرة بسيطة تقول إن دور عموم الموطنين في تقرير حياتهم ومستقبلهم ليس قليل القيمة أو عديم النفع، بل يمكن أن يفعلوا الكثير لينأوا بأنفسهم عن المزيد من التدهور وعن حرب أهلية مجانية، ربما بتكاتفهم في رفع الصوت عالياً ضد ما يجري، أو بالمبادرة الى أن خلق أي مستوى من التواصل في ما بينهم معادٍ للتفرقة والتفكيك والحقن والتوتير، وربما بالاجتهاد والعمل على تشكيل جماعات أهلية مدنية غرضها محاصرة الفلتان والاندفاعات العمياء، وضاغطة لتغذية الحاجة والاستعداد لتقديم التنازلات المتبادلة من كل الأطراف في صالح روح التعايش والتوافق وما يعنيه ذلك من منح الدولة ومؤسساتها دورها المركزي والعمومي لإدارة المجتمع وتسوية خلافاته وعلاقاته الخارجية.

مع كل صرخة ألم لإنسان معوز ومظلوم أو لطفل جائع ومحروم يكتشف كل عاقل كم الحاجة ماسة لدور الدولة ومؤسساتها، وكم يفتقر لبنان لسلطة عمومية قوية تستطيع تحت عباءاتها الواسعة معالجة كافة التصدعات والشروخ ويمكنها أن تملأ الفراغ الذي يخلفه تحييد العوامل الخارجية، ولا يغير من قوة هذه الحقيقة بل يعززها دفع الموقف الى الامام ودعوة البعض إلى إزاحة كل الطغمة السياسية الحاكمة، “كلن يعني كلن” تخوفاً من استمرار التركيبة العائلية المهترئة ونظام المحاصصة الطائفية، الذين، وللأسف، على صخرتهما العفنة تكسر في ما مضى، ويحتمل أن يتكسر أي مشروع واعد ببناء لبنان وطناً للجميع.

شارك المقال