بين الدولة واستنساخ الميليشيات

عالية منصور

هناك لحظة غابت عني، لا أذكر متى مرّت ولا أذكر ما الذي حدث وكيف حدث، لكن كل ما أعرفه أنه فجأة بات الخطاب السياسي في لبنان بسواده الأعظم كوميدياً مرة وسوريالياً مرات، وبات التعاطي السياسي بين الأحزاب والشخصيات السياسية أشبه بمسرح الدمى، من دون أن يدركوا أنهم دمى. قلة من السياسيين والصحافيين لا تزال تخاطب عقل الإنسان لا غريزته، وبأغلب أحوالها تلتزم الصمت، حيث كلام المنطق قد يخسرك جمهورك، في ذروة الشعبوية الطاغية على الخطاب السياسي.

كلما استمعت لبعض الخطب السياسية ممن ظننت يوماً بسذاجة أنهم صنّاع سياسة وقرار، تذكرت كتاب “التربية القومية” في مدارس البعث، وتذكرت أقوال الرئيس الأب الخالد حافظ الأسد ونيته القضاء على إسرائيل ومحاربة الامبريالية والرجعية، وخططه لحروب أشبه بالحرب بسيف من ورق، اللهم إلا إذا كانت الحرب على الشعب نفسه، لا على أعدائه.

بدأت الحملات الانتخابية باكراً في لبنان. التحالفات شبه واضحة، ما يجمعها ليس المشروع، لكن الخطاب الشعبوي والعداء لكل من لا يشاركهم شعبويتهم وطائفيتهم وإعلان نيتهم واستعدادهم العودة بلبنان إلى الحرب الأهلية. هم يعتبرون من لا يرغب في الحرب “جباناً ومنبطحاً ومتخاذلاً”.

لكن هل نسينا، أليست 7 أيار لا تزال ماثلة أمام أعيننا؟ من كان مسؤولاً أمنياً كبيراً يومها لم يستطع أن يحمي مؤسسة إعلامية أو حياً سكنياً؟ واليوم يتّهم الآخرين بالانصياع للدويلة، ولا يدع فرصة إلا ويهدّد ويتوعّد بكفّ يد “حزب الله” عن البلد واستعادة الدولة، وليته يوم كان مسؤولاً استطاع حماية حي واحد. ولا أقول ما أقوله بمعرض اللوم أو القاء المسؤولية لأنه ومؤسسته لم يواجهوا الحزب بالسلاح، بل للتذكير أنه عندما كان مسؤولاً كان شريكاً بتجنيب البلد فرصة اندلاع حرب أهلية جديدة، وهو ما يعتبره اليوم انصياعاً وجبناً، وكل ما هنالك من صفات سلبية، ولكن “الحكي ما عليه جمرك”، حتى وإن كان المتحدّث “مسؤولاً”.

أما من اعتبروا يومها أنّ إنجازهم في ذلك اليوم المشؤوم، الذي اعتبره نصرالله يوماً مجيداً، هو تحييد “مناطقهم”، وأنهم قاموا بواجبهم بإعلانهم “تضامنهم” مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وسعد الحريري، يوم ضرب الحزب قذائفه على أسوار قصر قريطم. كيف لهم أن يقنعوا من لا تتحكم بهم غريزتهم أنهم من دعاة بناء الدولة، في وقت يعلم العقلاء أنّ 7 أيار كان معركة الميليشيا ضدّ الدولة، ولم يكن معركة شيعية ضد السنّة أو الدروز، ولم يكن ضدّ “المستقبل” و”الاشتراكي”. تم اجتياح بيروت والجبل وقتل مدنيين رداً على قرارات الحكومة اللبنانية، وليس رداً على قرارات حزبية.

لا أعرف لمصلحة من يتم كل هذا التجييش المذهبي، وتصوير الحرب الأهلية كأنها نزهة أو دليل على الشجاعة والبطولة، “حزب الله” ميليشيا إرهابية لا يختلف أي مؤمن بالدولة أنّ وجوده هو السبب الأساسي لغياب العدالة والشفافية، وحتى غياب الدولة.

ولكن عدو “حزب الله” الأول هو الدولة وليست ميليشيا معادية له. عدو “حزب الله” هي الوحدة الوطنية، وليس الخطاب المذهبي وعقلية القانون الأرثوذكسي. من يريد حقاً كفّ يد الدويلة، يعمل على تقوية الدولة، لا على تسويق فكرة دويلات مقابلة. من يظن أنه مفكر استراتيجي، فلينظر قليلاً أبعد من لبنان وليرَ أين وصلت إيران بمفاوضاتها مع الولايات المتحدة ومع دول عربية عدة، وليرفض حقاً تحويل لبنان مرة جديدة إلى ساحة لإرسال رسائل بين الدول.

نعم، لا يمكن أن ينهض لبنان بوجود ميليشيا مسلّحة إرهابية تعلن ليلَ نهار ولاءها لغير لبنان، ولكن لا يمكن أيضاً أن ينهض لبنان بمحاولات “صبيانية” لاستنساخ ميليشيات تشبه “حزب الله”.

شارك المقال