بؤس الطائفية المستعادة

محمد علي فرحات

خريطة لبنان هذه الأيام: دولة ضعيفة قريبة من الانهيار، وأحزاب وهيئات سياسية قوية وتزداد قوة، وشعب يحلم بالهجرة هرباً من العيش من دون الحد الأدنى ووصول شرائح منه إلى حافة الجوع.

ولمّا كانت الهجرة تزداد صعوبة فإن المواطنين يتقرّبون من الأحزاب أكثر من أي وقت مضى، ليس طلباً للدعم المعنوي أو قناعة بالأفكار بل طلباً لرواتب أو مساعدات منتظمة تقيهم الجوع. هكذا نرى الأحزاب يتضخّم عدد المنتسبين إليها فيما تبقى قلة من المواطنين خارج الإنتماء الحزبي، ليس لها سوى دولة عاجزة ومجتمع يزداد قسوة وانقساماً. هذه القلّة تحتاج صرخة يومية لإنقاذها، بل حتى دعوة إلى دول شقيقة وصديقة لدعم هذه الفئة المهملة.

وحين نقول أحزاباً وهيئات سياسية هذه الأيام فهي موصومة بالطائفية على الرغم من خطابها العام. يستوي في ذلك الحزب الطائفي النشأة والحزب الذي دفعه واقع الحال إلى قصر نشاطه على طائفة معيّنة تشكّل عصبيته الأولى.

والطوائف اللبنانية في حال انكفاء، اكتمل أو لم يكتمل بعد، فثمة طوائف عصيّة على الانصياع إلى عصبيتها وقطع الصلة مع الطوائف الأخرى في الوطن، لكنّها بسبب الانهيار الثقافي والإجتماعي والإقتصادي بدأت تتقبّل تصغير نفسها إلى مجرّد طائفة تأنس بعصبيتها ولا تحتاج مشاركة طوائف أخرى.

واللافت هذه الأيام أن تنظيم “حزب الله” اكتشف فجأة ما هو حقيقته منذ النشأة الأولى، أي أنه حزب شيعي يحظى بتأييد قسم من الطائفة الشيعية اللبنانية. وكان عُظام الحزب نتيجة امتداداته خارج الحدود نحو سوريا وغزّة والعراق واليمن، يدفعه إلى اعتبار نفسه كياناً يتعدّى الطائفية إلى تأثير إقليمي نتيجة قتاله في مناطق عربية قريبة أو بعيدة. الأحداث الأخيرة في لبنان أكدت المؤكد لدى “حزب الله”، أي انه واحد من الأحزاب الطائفية بإدارته وبسلاحه وبماله ذي المصدر الإيراني، وليس نتيجة الإنهيار الحالي الذي دفع أحزابا لبنانية إلى الاختباء في حضن الطائفة بحثاً عن دور مفقود.

يقظة “حزب الله” على حقيقته الطائفية تسبق يقظة مطلوبة من النظام الإيراني الذي يقوده الولي الفقيه السيد علي خامنئي، فهذا النظام يتبنّى خطاباً سياسياً إسلامياً يلبّي مصالح رجال الدين الحاكمين، وقد استقوه من أدبيات “الاخواني” المصري المتطرّف سيّد قطب الذي لا تزال مؤلفاته مصدراً لأفكار حكام إيران، خصوصاً خامنئي مترجم مؤلفات قطب إلى اللغة الفارسية. ولا ننسى مشكلة تركيز حكام طهران على الوحدة الإسلامية الذي يستبطن طرد الدول الإسلامية الكبرى من القيادة العالمية للإسلام السياسي، على الرغم من أن هذه الدول تنتمي إلى أهل السنّة، وهم يشكّلون نحو 85% من مسلمي العالم. وليس من المنطق حتى في مفهوم الإسلام السياسي أن تقود الأقليّة الأكثرية، لكن الأمر لا يعدو كونه مصلحة للنظام الحاكم في إيران.

والتعقيدات على خط العلاقة بين إيران و”حزب الله” في الإقليم لا تحجب حقيقة يعترف بها معظم اللبنانيين، وهي أن هذا “الحزب” ساهم بفعالية وبدماء مقاتليه في دفع الجيش الإسرائيلي للانسحاب حتى الحدود الدولية، فتحرّر لبنان بذلك من احتلالي 1978 و1982، وصارت أرض الجنوب حرة لأبنائها ولجميع اللبنانيين، وهؤلاء أو معظمهم قدّروا هذا الجهد التحريري غير المسبوق عربياً، على الرغم من تساؤلاتهم المضمرة حول إيديولوجية “الحزب” الداعية إلى دولة إسلامية، خصوصاً أن مثل هذه الدعوة كان هامشياً جداً لدى المسلمين اللبنانيين، وخصوصاً السنّة الذين لم تنضم منهم سوى أعداد محدودة جداً إلى جماعة “الاخوان المسلمين” منذ نشوئها على يد حسن البنّا في أربعينيات القرن العشرين. والواقع أن الابتعاد عن “حزب الله” بدأ تماماً مع بروزه كقوة مقاتلة في المشرق العربي وفي اليمن، واصطفافه مع إيران ظالمة أو مظلومة ضد دول عربية للبنانيين صداقات تاريخية معها ومصالح قائمة حتى اليوم. ثم إن الشعارات العدائية التي يطلقها “الحزب” ضد الغرب الأوروبي والأميركي تجاوزت انتقادات سياساته المنحازة إلى إسرائيل نحو رفض إيديولوجي لحضارة هذا الغرب. وهنا، وحتى تاريخه، فإن اللبنانيين يتمسكون بعلاقة ثقافية ومادية مع مجتمعات أوروبا وأميركا، حيث لديهم مغتربون منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر. لذلك نلاحظ حذر معظم اللبنانيين من “حزب الله” على الرغم من نضاله المشهود في تحرير الجنوب والبقاع الغربي وراشيا.

واليوم تغلب النزعة الطائفية على الخريطة السياسية اللبنانية، ويتمثّل “حزب الله” فيها كحزب طائفي محلي، على الرغم من نمو حضوره العسكري في المنطقة باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء. أما نحن اللبنانيين فعلى مواعيد مشؤومة مع السموم الطائفية أو الأوهام الطائفية كل عقد أو عقدين من السنين، لنبقى نراوح في تحدي تأسيس وطن غير طائفي. ونلاحظ هذه المرة أن الفساد وسرقة المال العام هما الشريك بل الداعي الأساسي لعودة الطائفية القاتلة إلى شعب يبني ويهدم بالحماسة عينها.

شارك المقال