“حرب أهليّة” لغسل “حزب إيران” من عار المرفأ

عبدالوهاب بدرخان

مساء الاثنين (18-10-2021) خصّص الأمين العام لـ”حزب إيران/حزب الله” ساعتين متلفزتين لدعوة جمهوره الى كراهية حزب “القوات اللبنانية” واستعدائه، ولم يضمن في الوقت نفسه أن يتعاطف معه جمهور “التيار الوطني الحرّ” أو أي جمهور آخر. وَلغ حسن نصرالله في الوحل الطائفي، مع أنه كان يتبرّأ منه، واضعاً حزبه والـ “شيعة… شيعة” في مواجهة “القوات” والـ “موارنة… موارنة”، متجاهلاً الـ “سنّة… سنّة”، باعتبار أن معركته معهم، لتطويعهم، حُسمت وانتهت.

كانت هناك مجازفات كثيرة في سيل الكلام و”مضابط الاتهام” لحزب “القوات” وبالأخص لرئيسه سمير جعجع، لكن زعيم “حزب إيران” أسهب مستنداً الى فائض الغطرسة الذي بات يسيّره. أولى المجازفات أنه لم يقدّر خطأ جردة الحساب التاريخية التي قدّمها للوقائع والمرّات التي عفا فيها “حزبه” عن المسيحيين (عند المقدرة!)، فأي وقع توقّعه من المستمعين إليه من الطوائف كافةً؟.. الثانية، أنه بدا مراهناً على انقسام لا عودة منه بين مسيحيي لبنان، ومصمماً على تعميقه، لأن ذلك جعلهم وسيجعلهم دمية بين يديه، بل إنه تعمّد تمنينهم بالإشارة الى مسيحيي سوريا والعراق وتهديدهم بـ “داعش الجديد”، أي “القوات” هذه المرّة، بعدما كان اجتهد سابقاً لقرن “داعش” بـ “تيار المستقبل” وجمهوره… الثالثة، أنه صار موقناً بنجاح “حزبه” في كيّ وعي اللبنانيين، بالترهيب العلني والخفي، ما يمكّنه من اتهام الآخرين باللعب على وتر “الحرب الأهلية”، لكنه أعاد بذلك تسليط الضوء على نفسه وعلى “حزبه” كمتهمَين رئيسيَين بتخريب البلد وساعيَين فعليَين الى “حرب أهلية” إذا تعرقلت سيطرته الكاملة على لبنان، لمصلحة إيران.

ثمة مجازفات ومغالطات أخرى، لكن زعيم “حزب إيران” لم يعد مهتمّاً بالعواقب، ولا حريصاً على قول “لو كنت أعرف…”، ولا أصيل التواضع كما يتظاهر، فهذا زمان “الحرس الثوري” الإيراني في عموم المنطقة، ولم يعد “تصدير الثورة” هدفاً رمزياً لنظام الملالي بل واقعاً يدبّ على الأرض ولديه ترسانات من الأسلحة والصواريخ وجيوشٌ من القتلة مغسولي الأدمغة. لذلك لم يمنعه فائض الغطرسة من الإفصاح عن الـ “100 ألف مقاتل” تخويفاً لـ “القوات” (مع توضيحه بأن “هؤلاء لبنانيون فقط”، ولم يحسب الميليشيات المستوردة). وسواء ألبس هذا الرقم هدفاً نبيلاً هو “منع الحرب الأهلية”، أو أراده لتطمين المسيحيين و”حمايتهم” من خطر “عدوّهم” – “القوات”، أو توجّه به لتخويف إسرائيل، فإن المحصّلة أنه لم يطمئن أيّاً من اللبنانيين الى غدهم، بمن فيهم جمهوره وحلفاؤه، بل إن آخر همومه أن يطمئنّوا الى أمنهم أو يتمكّنوا من مواجهة صعوبات العيش تحت خطّ الفقر.

الواقع أن مقتلة الطيّونة وحادث “زاروب الفرير” في عين الرمانة تخطّيا حسابات “الثنائي الشيعي”، وشكّلا بالنسبة الى “الحزب” تحدّياً لم يتوقّع أن أحداً يمكن أن يجرؤ عليه. لكن احتكاكات عدّة حصلت مع “القوات” وجمهورها، بدءاً بأيار (مايو) 2018 في الاشرفية غداة الانتخابات وبُعَيْد انتهاك صبيان الدراجات النارية نصب الرئيس الراحل رفيق الحريري، ثم أكثر من مرّة بعد “ثورة 17 تشرين” في عين الرمانة خلال 2019 و2020، وأخيراً في 14 تشرين الأول (اكتوبر) الحالي. في كل هذه المرّات لم تكن “القوات” هي التي دفعت بجحفل الدراجات النارية أو القمصان السود لاستفزاز اهالي مناطق أخرى مجاورة. بالنسبة الى “الحزب” وزعيمه الذي لمّح الى حصول “أخطاء”، ليس مسموحاً أن يدافع سكان عن منطقتهم إذا غزاها صبيانه ليصدحوا بهتافات مذهبية لا مغزى لها غير إظهار التفوّق على الآخر والنيّة المبيّتة لاستخضاعه. نعم، كان مرفوضاً تماماً ظهور السلاح والقناصة أياً يكن مصدره، لكن كان مرفوضاً أيضاً التخطيط لافتعال صِدام أهلي لاستغلاله في أجندة لم تعد خفيّة. ولولا وجود الجيش لكان الصِدام حقّق أهدافه.

المشكلة أن لا وجود لدولة أو قانون، ولا وجود لأي مرجع وطني محترم، فما تبقّى من الدولة يُوظّف لاستثناء “الثنائي” من أي محاسبة، كما اعتاد أن يفعل. كيف يمكن والحال هذه أن يُعالَج إشكال قد يتفجّر في أي لحظة، فـ “حزب إيران” بات له ثأرٌ على “القوات”، بل صار الثأر استحقاقاً لا بد منه للتخلّص من عقبة “صغيرة” على الطريق المعبّد للمشروع الإيراني. وسواء كان جعجع أو سواه اختصروا أحداث الطيونة بأنها محاولة “ميني 7 أيار” لتطيير التحقيق في انفجار/ تفجير مرفأ بيروت، فإن نصرالله نفسه مَن منحهم هذا الادّعاء، كونه لم يحد أبداً عن هدفه: تغيير مجرى التحقيق بتغيير القاضي طارق البيطار. منذ شهرين ونيّف صارت هجمات نصرالله على المحقق شبيهة تماماً، وحرفياً أحياناً، بحملاته على التحقيق والمحكمة الدوليين في جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.

وكما في الواقعة السابقة كذلك في الحالية، كلما ارتفعت عقيرته واحتدّت لهجته ازداد اللبنانيون اقتناعاً بأن “يكاد المريب يقول خذوني”. منذ البداية لم يكن أحد ليصدّق أن جريمة كاغتيال الحريري يمكن أن تدبّر وتنفّذ من دون مساهمة “حزب إيران” أو على الأقل من دون علمه، وقبل الانفجار وبعده لا أحد يجهل تغلغل هذا “الحزب” ودوره في المرفأ، وفي تغطية تخزين أطنان النيترات وتزوّد نظام بشار الأسد منها فضلاً عن استقطاع كميّات لمصلحة “الحزب” نفسه. لذلك يمكن القول إن نصرالله محقّ جداً في الدفاع عن المسؤولين الذين استدعاهم القاضي بيطار أو الذين مُنع من استدعائهم، فهؤلاء ارتكبوا ذنباً وحيداً كبيراً هو “الصمت” للتغطية على “الحزب”. وإذ يظهر “الحزب” كأنه يحميهم فإنه يمعن في احراقهم واغراقهم، غير أنه يخوض معركة مزدوجة الهدف: نسف التحقيق من أساسه، واستكمال المشروع الإيراني بتوجيه ضربة نهائية قاصمة لإخضاع القضاء.

لو لم تكن قضية المرفأ مهمة وخطيرة لما ذهب نصرالله و”حزبه” و”حركة أمل” الى حدّ شلّ حكومة يدّعون مع “التيار الوطني الحرّ” الفضل في استيلادها. فحماية “حزب إيران” من وصمة العار في المرفأ تبقى أهم من تمكين الحكومة من العمل، هذا إذا كان “الحزب” معنياً أصلاً بـ “انقاذ” الدولة والاقتصاد من الارتطام بعد الانهيار.

شارك المقال