تلقت السلطات اللبنانية رسالة غير مسبوقة من السعودية والبحرين والكويت والإمارات: قطع العلاقات بين هذه الدول ولبنان. الرسالة وصلت إلى من يدرك معناها سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً: إن لبنان يفقد أُفقه العربي الرئيسي ليبقى وحيداً في زاوية بين إسرائيل الغامضة وسورية المهشّمة.
وتصل الرسالة فيما لبنان غارقٌ في أزماته السياسيّة والإقتصاديّة، تهيمن على شعبه زعامات قليلة الحيلة وأخرى قليلة الإدراك. إنظر إلى مدى الخفّة والإستهتار في مواقف الكثيرين من أخبار قطع العلاقات، خصوصاً عندما تسمع كلام نخب سياسيّة حاكمة أو خارج الحكم، تتعامل مع المشكلة بنظرة قاصرة، وتبحث عن صيغ للتسوية تعتمد الكلام مقابل الكلام وتبويس اللحى والعفو عما مضى، تماماً كما يحدث في الخلافات العائليّة أو العشائريّة.
ولا يستطيع زعماء لبنان الذين تعهّد معظمهم انهياره إدراك حقيقة الموقف الخليجي، فيقيسونه حسب فهمهم الميليشياوي المتسرّع، ويتجاهلون أن القرارات بقطع العلاقة مع لبنان اتخذت بعد درس طويل وصبر أطول. فليس سهلاً على دول صادقت لبنان وقدّرت أعلامه في الفكر والفن والإدارة أن تقطع العلاقة معه. لكنها دول ملتزمة بمصالحها وهي بالتالي تدرس قراراتها قبل أن تعلنها. ولا يجوز للبنانيين كما للمراقبين التعامل معها كأنها حطام دول، كحال لبنان اليوم في عهدة الميليشيات ووارثيها ممن بدّلوا أزياء الحرب بأزياء مدنيّة حديثة.
قطع العلاقات هو انقطاع للبنان عن مداه العربي الأقرب، خصوصاً أن سوريا والعراق اللتين تجاورانه هما دولتان مقطّعتا الأوصال تعيشان حروباً أهلية غير معلنة حيث يغيب القانون والمساواة بين المواطنين. وحده الأردن هو الدولة الطبيعية في المشرق العربي.
كلام وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي في برنامج تلفزيوني مسجّل قبل تشكيل الحكومة وتركيزه على ما سمّاه عدواناً على اليمن، لم يكن السبب الوحيد بل الأخير في سلسلة أسباب أدّت إلى قطع العلاقات. ولعلّ أهمّها تدخّلات “حزب الله” في المنطقة العربيّة كما أشار وزير الخارجية السعودي. وهنا على السياسيين اللبنانيين من خصوم “حزب الله” والمتحالفين معه أن يفتحوا هذا الملف. أعني تدخّل “حزب الله” عسكرياً في المحيط العربي القريب والبعيد، خصوصاً أن لبنان لا يستطيع فتح ملف “الحزب” الداخلي لأنه مرتبط بالجوارين الإسرائيلي والسوري، وهذا لم يحن أوانه بعد، فضلاً عن عدم قدرة اللبنانيين على معالجة تحتاج ترتيبات إقليمية ودولية لم تنضج بعد، ربما لن تنضج في وقت قريب.
ويمكن لأصدقاء الحزب كما لخصومه في الداخل اللبناني، بل من واجبهم، أن يطلبوا منه الإمتناع، أو على الأقل تخفيف لعب دور الذراع الإيرانية في المنطقة الذي يؤثر سلباً في علاقات لبنان العربية والدولية، ويكاد يودي به إلى الإنهيار دولة وشعباً. اقتراح قد يبدو من باب الخيال فمن يجرؤ على ذلك؟ ومن يملك حسّاً بالمسؤولية الوطنية يجعله قادراً على فتح مثل هذا الملف؟
الواقع أن مستوى القيادات السياسية اللبنانية هابط وبائس ومحدود الأفق إذا افترضنا البراءة، من هنا صورة لبنان اليوم هي مجموعة من اشباه الدول تتصارع تحت خيمة الدولة الواحدة. وقد تبدو طائفية لدى النظرة المتسرّعة، لكنها في الحقيقة مجموعة ديكتاتوريات تلبس لباس الطائفية عندما تريد وتخلعه عندما تتطلّب المصلحة. وفي هذا كلّه يندرج “حزب الله” كدولة داخل الدولة، مثله مثل غيره من ديكتاتوريات لبنان البائسة… ولا براءة في لبنان إلاّ للبريء، وما أقل الأبرياء في وطن الأرز.