الاقتصاد السوري!

اكرم البني
اكرم البني

والقصد هو ما بقي من الاقتصاد السوري بعد أكثر من عشر سنوات من انفلات العنف واستباحة مختلف وسائل الفتك والتنكيل والتدمير من نظام، أعلنها بوقاحة، بأن لا شيء يهمه، لا وطن ولا بشر، سوى الحفاظ على سلطته وامتيازاته وفساده حتى لو كان الطوفان والخراب المعمم.

تتحدث الأرقام وهي متقاربة، وأحياناً متطابقة، بين تقارير أممية ودراسات أصدرتها منظمات حقوقية ومراكز أبحاث، عن أن الاقتصاد السوري خسر 226 مليار دولار من إجمالي الناتج المحلي عام 2020 وهو ما يعادل أربعة أضعاف إجمالي الناتج المحلي عام 2010، وان الوطن السوري يحتاج اليوم إلى 350 مليار دولار بالحد الأدنى لإعادة الاعمار، وبينما دمرت وخربت حمم القذائف والبراميل المتفجرة بيوت السكن والمرافق العامة والأراضي الزراعية، ومنع الانتشار الأمني والحواجز العسكرية نقل المحاصيل بصورة آمنة إلى الأسواق، أفضى شحّ المواد الأولية جراء وقف الاستيراد، وضعف التسويق ومنافذ التصدير، إلى انهيار الصناعة، فأغلقت مئات المصانع أبوابها أو قلصت إنتاجها، وسرح الآلاف من عمالها بصورة تعسفية، وغدت نسبة البطالة تتجاوز 78% وصار نحو تسعة ملايين سوري عاطلين عن العمل، فضلاً عن ازدياد أعداد المهاجرين من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية.

ولاقى قطاع السياحة المصير الأسوأ كأن دوره انتهى اليوم تماماً، مثلما انتهت فرص الاستثمار، وتعطلت غالبية المشاريع الانتاجية التي كانت تسير بصورة طبيعية، وتراجع دور البنوك العامة والخاصة جراء العقوبات، وهربت أهم رؤوس الأموال الخاصة إلى الخارج، ليس فقط بسبب مناخ الحرب وتردي الوضع الأمني، وإنما بسبب انتشار مرعب لظاهرة الابتزاز المالي، إن بعمليات الخطف والمبادلة، وإن بفرض إتاوات عند الحواجز على الأشخاص الذين يعبرون من منطقة إلى أخرى، وإن بإجبار التجار والمستثمرين على دفع مخصص شهري لمركز أمني أو عسكري يدّعي حمايتهم، وقد بلغ حجم رؤوس الأموال السورية المهاجرة إلى تركيا ومصر والأردن ولبنان، ما يقارب 35,7 مليار دولار باعتراف حكومات تلك الدول، عدا عن رؤوس أموال وظفت بالتشارك مع رجال أعمال أجانب، وعن أموال مهاجرين سوريين استثمرت لإنشاء مشاريع صغيرة في كندا وبلدان أوروبية وبخاصة المانيا.

لقد أفضى التراجع المريع لقيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، إذ تجاوز هذه الأيام سعر صرف الدولار الواحد ثلاثة آلاف وخمسمئة ليرة، وكان في حدود الخمسين ليرة سورية عام 2011، إلى ارتفاع جنوني في الأسعار لتتضاعف أكثر من 28 مرة ما بين أعوام 2011 و2021. كما ازدادت معدلات الفقر والعوز المالي بشكل حادّ بين البشر من 33% إلى 80% خلال الفترة عينها وصار أكثر من نصف المجتمع، أي ما ينوف عن 12 مليون سوري، يعيشون تحت خط الفقر، وربما تحت خط الفقر الشديد ومحتاجون لضمان استمرارهم إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية المختلفة، كالغذاء والمأوى والصحة والتعليم.

وباتت العائلة السورية، المكونة من 6 أفراد، بحاجة إلى دخل شهري يقارب 300 ألف ليرة سورية أي ما يعادل اليوم 400 دولار، لتوفير السلع الأساسية وأهم المستلزمات والحاجات المعيشية، ربطاً بمعاناة قاسية شبه يومية لتأمين مستلزمات حيوية كالغاز ومازوت التدفئة، ومشاكل الانقطاع المتواتر للماء والكهرباء، فكيف الحال حين تضيف منظمة اليونيسيف أرقاماً مخيفة عن انهيار وتهتك الشبكات التعليمية والصحية، وتراجع معدل أمد الحياة لدى السوريين لأكثر من عشرين عاماً، وحرمان نصف أطفالهم من الرعاية الصحية ومتابعة الدراسة والتحصيل العلمي.

والأنكى حين تحتل سوريا اليوم المرتبة 178 عالمياً ضمن قائمة أسوأ الدول فساداً، ولا تترك خلفها سوى الصومال، وحين تتضاعف أرقام ودائع أهم ضباط ورجالات النظام في بنوك سويسرا والإمارات وروسيا، ولعل إحدى الآليات التي تُنهب من خلالها أموال السوريين وثرواتهم، هي اتساع السوق السوداء وتنامي دورها برعاية مسؤولين كبار وأمراء الحرب وتجارها، وميليشيا “حزب الله” اللبناني والحرس الثوري الايراني، لتغدو متحكمة إلى حد كبير، ليس فقط في سوق القطع الأجنبي وإنما أيضاً في ترويج المخدرات والتلاعب بحاجات المواطنين الأساسية.

صحيح أن العقوبات الاقتصادية الغربية اضطلعت بدور في تعميق أزمة الاقتصاد السوري، لكن السبب الأساس لتفاقم هذه الأزمة هو رفض السلطة السورية البغيض والمزمن لأي شكل من اشكال المعالجة السياسية، وإصرارها على الخيار التدميري وتسخير مختلف موارد البلاد لاستجرار السلاح ولتغطية تكاليف العمليات العسكرية، مما أفضى لاستنزاف خزينة الدولة من العملات الصعبة، وتكبيد الدخل القومي أضراراً كبيرة جداً بسبب خسارة الكثير من مصادره التجارية والزراعية والصناعية والثروات الباطنية.

إن النتائج المأساوية التي خلفها الصراع الدموي، واستمرار سلطة لا تزال مطمئنة لانعدام أي رد فعل عالمي جدي ضد عنفها المفرط وإجرامها، لا يثيران التفاؤل بانتفاضة شعبية سورية ضد الجوع والفساد كما يتوقع البعض، ولا يشجعان على القول بأن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي سوف يغير المشهد ويفرض التغيير السياسي المنشود الذي عجزت عنه المفاوضات والوسائل العسكرية، ولعل الغاية البسيطة من كشف حقيقة ما بقي من الاقتصاد السوري وشدة أزمته، هي تعرية مدى العجز والارتهان اللذين وصل إليهما نظام أناني، والكوارث التي ألحقها وسيلحقها بالبلاد ومقدراتها، كي يحافظ على سلطته وامتيازاته، وأيضاً لفضح وجوه وأساليب الفساد والاستئثار واللصوصية التي يستخدمها رجالاته في إدارة الاقتصاد لإعادة انتاج هيمنتهم وامتيازاتهم، والأهم لتثبيت حقيقة أن لا مستقبل للسوريين ولا معافاة لاقتصادهم واجتماعهم الوطني من دون تغيير جذري يطال السلطة ونظام الحكم وأساليبه، يحدوه التمسك بحل سياسي يستند إلى العدالة الانتقالية كخطة طريق واجبة لخلاص مجتمع طحنته الحرب الأهلية ومثقل بتركة ثقيلة من الانتهاكات والجرائم والمظالم.

شارك المقال