“التقدمي”… عينٌ على الماضي وعينٌ على المستقبل

عبدالله ملاعب

قبل عقد المؤتمر العام الثامن والأربعين للحزب التقدمي الاشتراكي بأيام قليلة، تبدّل مكان انعقاد المؤتمر من قاعة “الرسالة الاجتماعية” في مدينة عاليه الى المدينة الكشفية في عين زحلتا. استبدال المكان فرضه توسيع قاعدة الحضور، إذ قررت القيادة الحزبية في ربع الساعة الأخير توسيع مروحة المشاركين ففُتحت أبواب المؤتمر أمام منظمة الشباب التقدمي والاتحاد النسائي والهيئات الادارية في القرى كافة حيث يوجد الحزب الاشتراكي بسابقة من نوعها أراد منها الحزب مدَّ يده باتجاه المرأة والشباب الفئتين اللتين يستحوذان على اهتمام كبير من زعيم المختارة في الآونة الأخيرة، مما ترجم في عمل اللقاء الديموقراطي الذي قدم اقتراحين لخفض سن الاقتراع ووضع “كوتا” نسائية في البرلمان.

المؤتمر ضم نحو ثلاثة آلاف شخص بعضهم غير حزبي، في حين كانت المؤتمرات السابقة تنحصر بفئة معينة من الحزبيين ولا يتخطى الحضور فيها عتبة الـ800 حزبي. انتقاء المكان لم يكن بسبب وسعته فحسب، بل لأن للمدينة الكشفية في عين زحلتا رمزيتين تشكلان اليوم النقطتين الاهم بالنسبة لجنبلاط. أولا، ماضي الحزب وتاريخه النضالي فالمدينة الكشفية تعتبر معلماً أساسياً تاريخياً للتقدمي إذ إنّها كانت مركز قيادة جيش التحرير الشعبي، أي الجناح العسكري للحزب التقدمي الاشتراكي إبان الحرب. وثانياً لأنها الاقرب الى الشباب إذ إنها الواحة الطبيعية الحرة التي تعقد فيها منظمة الشباب التقدمي منذ عقود مخيماتها ولقاءاتها ونقاشاتها ومؤتمراتها، بالإضافة الى محورية المدينة الكشفية بالنسبة إلى جمعية الكشاف التقدمي التي حضرت أيضاً المؤتمر بتمثيل واسع.

أتى المؤتمر بعد أشهر عديدة من العمل بناء على خطة منهحية أراد عبرها وليد جنبلاط الوصول الى أصوات المحازبين وإشراكهم في صنع التجديد وصياغة الوثيقة التي جالت على كل مناطق وجود “الاشتراكيين” من طرابلس شمالا الى مرجعيون جنوبا. إذ جال أمين السر العام للحزب ظافر ناصر يرافقه مفوض الداخلية هشام ناصر الدين على كافة الوكالات الحزبية لمناقشة وتدوين التعديلات على مسودة وثيقة كان قد صاغها كبار الشخصيات في التقدمي، لتُعلن رسمياً في المدينة الكشفية وتكون بشقين الأول سياسي والثاني اقتصادي اجتماعي، وفيها تقويم واقعي لعمل وزراء الحزب منذ التسعينيات حتى اليوم.

أبرز ما جاء في الشق السياسي من الوثيقة يتمثل بعنوان المؤتمر العام “لا إصلاح من دون سيادة”، والذي ترجم باحترافية عالية في الورقة السياسية التي ذكرت بالاستراتيجية الدفاعية معتبرة ان الحزب الاشتراكي كان أول من تقدم برؤية واضحة وخطة مدروسة حولها بغية حماية لبنان من الأطماع الاسرائيلية والتأكيد على مرجعية الدولة في الدفاع عن الوطن، مع ذكر حق الجنوبيين في المقاومة ودور الاشتراكي فيها. وفي الورقة السياسية أيضاً، يشير الاشتراكي الى ضرورة إلغاء منطق الاستقواء بالدولة أو على الدولة، “إذ لا يكون إستقواء على الدولة أو فيها من الداخل والخارج لمصادرة قرار مؤسساتها”، غامزاً من قناة التيار الوطني الحر الذي يستقوي بمؤسسات الدولة المُجندة لخدمته، ومحدداً موقفه من استقواء “حزب الله” على الدولة اللبنانية بفعل سلاحه والدعم الخارجي الذي يتمتع به. واللافت أيضا، في القسم السياسي تأكيد الاشتراكي على ضرورة إنجاز مجلس الشيوخ للوصول الى الدولة المدنية إذ يرى الاشتراكي أن لا دولة مدنية من دون إنشاء مجلس الشيوخ لأنه وحده الكفيل بتحرير مجلس النواب من القيد الطائفي، وبالتالي يعود إنشاء مجلس الشيوخ كمطلب أساسي يرفعه الاشتراكي في وثيقته الى جانب مطالب سياسية أخرى يتعهد الحزب العمل عليها عبر اقتراحات نيابية ومن خلال مختلف الأطر التي يجيزها القانون ولا سيما التحرك المطلبي في الشارع. ومن هذه الاصلاحات السياسية “إقرار قانون إنتخابات عصري لا طائفي يؤكد شراكة المغتربين في اختيار ممثليهم، واستكمال تطبيق كل مندرجات اتفاق الطائف، ومواجهة “ما يعتري النظام السياسي من أمراض عبر النضال لحماية ميزات لبنان المتنوع والحر الديموقراطي”. كما يؤكد الاشتراكي في وثيقته على وجوب المحافظة “على ما تبقى من علاقات لبنانية – عربية وتفعيلها لا سيما مع الدول التي شكلت سنداً للبنان في أصعب ظروف الحروب والمحن”.

وفي هذا الإطار، تؤكد مصادر الاشتراكي لـ”لبنان الكبير” حرص وليد جنبلاط على معالجة الازمة التي طرأت مع دول الخليج المعروف موقف جنبلاط منها، والتي تشير الوثيقة الى أهمية تفعيلها على المدى البعيد.

وكان لافتاً في الشق الاجتماعي الاقتصادي اعتراف التقدمي بفشل النظام الاقتصادي الذي أتى بعد الطائف، إذ فشلت القوى السياسية بحسب التقدمي في “إعداد برنامج اقتصادي اجتماعي متكامل يحافظ على الدولة ومؤسساتها” ويؤمن دولة الرعاية التي تعهد الاشتراكي العمل على تأمين مقوماتها، داعياً لارفاقها بتعديل النظام الضريبي كي يخدم الطبقتين المتوسطة والفقيرة.

في الوثيقة السياسية، يؤكد الاشتراكي حضوره في رحاب كمال جنبلاط من الباب العريض ويتعهد إقران الاقوال بالافعال. وكذلك، عاد وليد جنبلاط في كلمته التي القاها في المؤتمر الى كمال جنبلاط وبشير جنبلاط للاشارة الى المعركة الوجودية التي تواجهها المختارة والتي بدأت “بتصفية بشير جنبلاط” الذي مات إعداماً على يد بشير الشهابي عام 1825، وصولاً الى اغتيال كمال جنبلاط على يد حافظ الأسد”. في كلمته، وجه وليد جنبلاط تحية من القلب الى الرعيل الاول في الحزب التقدمي الاشتراكي الذي رافق والده وحضر منه توفيق سلطان وجوزف القزي وغيرهما من الذين ناضلوا في حضرة كمال جنبلاط، ووجه لهم وليد جنبلاط تحية بالاسم. وأكثر ما لفت الحزبيين في كلمة وليد جنبلاط إعلانه تحديد تاريخ من كل عام ليكون بمثابة ذكرى مركزية لشهداء الحزب الاشتراكي، معلنا أنه سيُقيم نصبا تذكاريا للشهداء، من المرجح أن يكون في بلدة شوفية معروفة، وفي الإطار، قد تواصل وليد جنبلاط منذ أيام قليلة مع مجموعة نحاتين، طالباً الحصول على اقتراحات للنصب، ليحقق بذلك مطلبا لطالما أراده جمهور الاشتراكي، إذ قرر جنبلاط أخيرا تنفيذه بعد إقتناعه بأن هذه الخطوة اليوم لن تكون استفزازية لخصوم الاشتراكي إبان الحرب الاهلية وذلك بسبب نجاح المسار الطويل الذي خاضه جنبلاط في السنوات الماضية لترسيخ العيش المشترك الدرزي – المسيحي في الجبل والذي تقول مصادر الاشتراكي أنه كان ضروريا قبل الاقدام على هذه الخطوة لان شهداء الاشتراكي سقطوا في صفوف الحزب والقوى الوطنية ضد جبهة اليمين المسيحية، كما تقول مصادر الاشتراكي رداً على سؤال: لماذا اليوم؟

ذكَر جنبلاط الحزبيين بالتحديات والمعارك التي واجهها الحزب الاشتراكي، مؤكداً حرصه على بقاء المختارة والحزب، ومذكرا بضرورة احترام التاريخ وعدم تجاهله. أراد جنبلاط في كلمته ان يُعيد إلى الأذهان الدور الوطني للحزب الاشتراكي الذي قاوم العدو الاسرائيلي في الجنوب وفي بيروت وأسقط مع حلفائه اتفاق 17 أيار، كما قال جنبلاط في المناسبة. هذا وحرص في سياق كلامه، على إيصال رسائل لاذعة برقي وحنكة وهدوء لمن “اراد خلق حقدٍ غير مبرر بين الاجيال وحاول قطع أواصل الترابط الموضوعي بين الماضي والحاضر”، إذ بيَّن الدور الذي لعبه الاشتراكي منذ تأسيسه لقيام دولة مدنية لا طائفية، مبررا فشله بذلك بسبب اصطدام الامر “بقوى المعارضة الرجعية في الدوائر الدينية والسياسية ولكون العالم العربي المحيط يرفض السماع بأي طرح يفصل الدين عن الدولة ولا يزال”.

جنبلاط تعهد البقاء الى جانب جمهوره الوطني لا الطائفي مشيرا الى العمل الذي قام به الحزب خلال جائحة كورونا والازمة الاقتصادية لدعم صمود المواطنين. وفي كلمته، اقتنص زعيم الجبل الفرصة للإشارة الى “المقاطعة شبه الكاملة المفروضة على أبناء الجبل “من ما يسمى بالمجتمع المدني والمؤسسات الدولية والسفارات الكريمة على البعض والبخيلة على البعض الآخر”. وتشير معلومات “لبنان الكبير” إلى أن جنبلاط أوصل رسائل عديدة للمؤسسات الدولية والسفارات التي تستثني أهل الجبل من نطاق عملها، وقد أظهر لها عتباً كبيراً جراء الاستنسابية، لتقدم إحدى السفارات الأوروبية على معالجة هذا الخلل.

جنبلاط ختم كلامه من دون التطرق الى الاستحقاقات الوطنية المقبلة لا سيما ملف الانتخابات النيابية التي تقول مصادر الاشتراكي إنه لا يزال لم يحدد تحالفاته إذ لم يبدأ بعد النقاش الجدي للانتخابات ولم تنطلق بعد عجلة الماكينة الحزبية الانتخابية للتقدمي بشكل رسمي.

بعد مداخلته فتح وليد جنبلاط باب نقاش الوثيقة السياسية لا الواقع السياسي، موليا إهتمامه الى الشق التنظيمي الداخلي الذي أظهر فيه حرصا على تطويره من خلال البنود التنظيمية التي أُقرّت، وفي ضوئها تقرر وضع كوتا شبابية ونسائية في مختلف الهيئات الحزبية والغاء حصر الترشح لمجلس القيادة بجمعية المرشدين، لإفساح المجال امام وجوه جديدة، وفصل النيابة عن الوزارة كمطلب أساسي للجيل الجديد. ليكون جنبلاط قد أطلق من المدينة الكشفية في عين زحلتا حقبة جديدة من النضال باتجاه هدفه الأسمى: الانسان، وذلك من خلال جمع الماضي الأصيل بتجدّد المستقبل “علَّ الامور تتغير فيعبر لبنان الجسر نحو الشرق الجديد!”.

شارك المقال