الرئيس القويّ

الراجح
الراجح

في إحدى زوايا السرد لمذكرات مدير المخابرات في الجيش اللبناني في عهد الرئيس فؤاد شهاب كابي لحود، نجد حادثة مهمة، لا بل أكثر من مهمة، لما في طياتها من دروس تعلّمنا كيف يكون الحاكم ومدى علاقته بشعبه.

يروي العميد الركن لحود، قصة رحلته إلى أميركا، حاملاً معه ملفاً كاملاً عن حاجات الجيش اللبناني من معدات عسكرية ومن ترسانة الدبابات والمدافع البعيدة المدى وغيرها. وحين عودته من تلك الرحلة المرهقة، ولحظة وصوله فجر ذاك اليوم إلى مطار بيروت، أشار له الضابط الذي كان في استقباله إلى ضرورة الإجابة على تلفون من القصر الجمهوري، وللمفاجأة كان الرئيس شهاب على الهاتف يهنئه بسلامته ويطلب منه الحضور إلى القصر تمام الساعة الثامنة صباحاً. وكان ما أراده الرئيس، فذهب العميد قبل أن يستطيع النوم ولو لساعة. وفي الاجتماع سأله الرئيس عن نتيجة الرحلة، فبدأ العميد يسرد له أن الأميركيين قبلوا الكثير من العرض الذي قدّمه عن الحاجات العسكرية المطلوبة، إلا أنهم رفضوا الجزء المتعلّق بالدبابات الكبيرة الحجم والمدافع البعيدة المدى، لأنهم ووفق رأيهم، أنّ لبنان لا يحتاج إلى هكذا سلاح، لأنه ليس دولة مواجهة. ولفت العميد نظر الرئيس إلى عرض تقدّم به الأميركيون، وكان عرضاً سخياً جداً يكاد لا يصدّقه العقل، وهو إعطاء لبنان ستة طائرات مروحية مقاتلة أعيد تأهيلها وصيانتها وبسعر 200 دولار للطائرة الواحدة. تعجّب الرئيس شهاب من العرض، وقبل أن يبادر بأي سؤال، أضاف العميد أنّ سعر الطائرة هذا رمزيّ، لأنّ الدولة لا تستطيع أن تقدّم شيئاً مجاناً لأي دولة أخرى من أموال الشعب الأميركي ودافعي الضرائب. فقال الرئيس شهاب، وما سبب هذه الهدية؟ أجابه العميد أنّ المطلوب مقابل ذلك قطع العلاقات مع كوبا (كانت أميركا تحاصر كوبا في ستينيات القرن الماضي)، وفوراً سأله الرئيس شهاب كم لبناني يوجد في كوبا؟ ولم يكن العدد حاضراً لدى مدير المخابرات! فطلب منه الرئيس معرفة العدد قبل الساعة الرابعة من بعد ظهر ذاك اليوم… تخيلوا كيف كانت حالة العميد الذي كان عليه العودة بعد الظهر مزوّداً بأعداد اللبنانيين في كوبا. ويسرد العميد كيف حصل على العدد والصعوبات التي مرّ بها للتأكّد من صحّته، لأنّ لا مجال للخطأ مع الرئيس شهاب. وفي الوقت المحدّد بعد الظهر، كان العميد لحود يقدّم العدد للرئيس شهاب. وكان 83 لبنانياً معظمهم، كما قال للرئيس، من اليسار الشيوعي والاشتراكي، يدرسون في الجامعات الكوبية بمنح من أحزاب اليسار اللبناني المعادي لنا، كما قال لحود للرئيس. وأضاف أنّ هناك سبعَ عائلات يعمل أربابها بالتجارة بين كوبا وبعض البلدان المجاورة. والمفاجأة الكبرى للعميد كانت جواب الرئيس شهاب، إذ طلب منه أن ينسى موضوع الطائرات.

من أجل 83 لبنانياً، ألغى الصفقة الحلم في ذاك الوقت. وفي زماننا، يقف الأمين العام لـ”حزب الله”، معلناً الحرب على الدول الخليجية، وفيها عشرات آلاف اللبنانيين. ويقف رئيس الجمهورية داعماً له ولموقفه، متجاهلاً مصالح لبنان واللبنانيين، ليس فقط في العالم العربي، بل في سائر أنحاء العالم أيضاً. ذكّرتني هذه الرواية بحديث مطوّل مع الصحافي إبراهيم سلامة حول كتابه “المذكرات” التي تُعتبر أمراً ليس سهلاً أبداً. فالناس في بلدنا اعتادت النسيان، وتعبت كثيراً لتمرّن عقلها على تناسي الماضي، وفي الكثير من الأحيان لمحوه من الذاكرة. ولعلّ الأستاذ إميل الخوري صاحب “آثار أقدام” قد تنبّه إلى هذه العاهة اللبنانية الفينيقية، حين كتب: “نحن شعوب نازلة من الجبال الى الشطآن تعبد الأصنام وترفعها إلى مستوى الآلهة، ثم تعود لتحطّمها”.

إذا استثنينا خطب الرئيس الشيخ بشارة الخوري، فلا يمكننا وبسهولة أن نعثر على مذكرات لبنانية لرجل سياسة أو رجل فكر أو حتى لرجل صحافة، ما عدا اسكندر رياشي في كتابيه “قبل وبعد” و”رؤساء لبنان كما عرفتهم”.

هناك كذبة كبيرة عنوانها القصص والأساطير، وقد سمّوها التاريخ، وهو ما يحاول الكثيرون الهروب منه، إما خجلاً وإما محوه بالكامل بآلة صغيرة اسمها “المحّاية” والتي بها يمحو اللبناني السرياني – الفينيقي كل ما له علاقة بالماضي. لأنّ ذاك التاريخ مجموعة من الأكاذيب يعجز “مسيلمة” عن مبارزتها والفوز عليها.

فتاريخنا كله إما مترجماً أو منسوخاً عن السمع، وليس عن ورقة مكتوبة. لذلك نرى أنّ لكل فخدٍ من افخاد قبائلنا تاريخ يرويه الأجداد بما يتناسب مع الظروف.

على الرغم من ذلك، سيظل سلاحنا الكتابة ولا شيء غيرها للحفاظ على الثقافة كوطن لنا. وعلى رأي محمود درويش، “نحن في هذه الأمة العظيمة محرومون من كل شيء، فأرضنا محتلّة وبلادنا مسلوبة. أوليس الصراخ آخر حقوقنا لنذكر العالم – وأحفادنا قبلهم بأننا أبناء وطن وشعب يستحقّ الحياة، وأنّ بلادنا فيها جبال ووديان وقرى ومدن جميلة؟!”.

كل الطغاة والأباطرة ابتلعهم التاريخ، وبقي الفلاسفة والشعراء والكتّاب عناوينَ لشعوبهم. ما اسم الأمير أو الحاكم الذي عاش في عصر شكسبير؟ ما اسم حاكم فرنسا الذي عاش في عصر فولتير؟ ما اسم الخديوي المصري – أو التركي الذي عاش في مصر في عصر أحمد شوقي وخليل مطران وبيرم التونسي؟ فماذا بقي لدينا حتى لا نغامر؟

سلبونا كلّ شيء. فليأخذوا ثيابنا الداخلية معهم، ربما تكون متورّطة بانقلاب أو تهديد لأمن الدولة غير القائمة أصلاً!

شارك المقال