وداعاً “لبنان العربي”… رحّبوا بـ “الجمهورية اللبنانية الحوثية”!

عبدالوهاب بدرخان

السنة الأخيرة من الرئاسة العونية هي سنة انتقال “حزب إيران/ حزب الله” من مجرد الهيمنة الى السيطرة الفعلية على لبنان، بقوة الـ 100 ألف مقاتل وترسانة السلاح الذي لا يزال غير شرعي على الرغم من غياب هذا التوصيف عن الخطاب السياسي. هذا هو مؤدّى “التفاهم” بين “الحزب” و”التيار”، وقد استهلك عملياً معظم أهدافه الداخلية غير المكتوبة فيه: ترئيس ميشال عون، تكريس الانقسام المسيحي، تهميش الطائفتين السنّية والدرزية، تهشيم “وفاق الطائف” وروحه ودستوره، وتبّرع الرئاسة العونية بصيغة لحماية السلاح غير الشرعي على حساب الدولة لقاء الاعتماد على “الحزب” لتمكين جبران باسيل من وراثة عمّه كـ “حقٍّ مكتسب”. أما الهدف الخارجي غير المكتوب لـ “التفاهم” فهو تطويب لبنان في “المحور الإيراني”، استناداً الى تواطؤ فرنسي وتغاضٍ أميركي.

ها هي السنة الأخيرة بدأت بـ “الإنجاز” الأعظم الذي حصده “الحزب” بما يشبه صدفة مفاجئة، والمتمثّل بقطيعةٍ مع السعودية ودول الخليج، وليس سحب السفراء سوى جانب اجرائي منها. فسرعان ما جرى رمي الأزمة في مطحنة العداوات المحلية التافهة، معطوفة على الأزمات الإقليمية، وقد اجتهد “الحزب” وحلفاؤه لتضييع الأولوية، حتى غدا استرجاع العلاقة مع الرياض على قدم المساواة من الأهمية مع عدم إغضاب المسترئس الآخر سليمان فرنجية (وداعمه بشار الأسد) حتى لو كان وزيره ارتكب حماقة مُكلفة للبلد ولمئات الآلاف من اللبنانيين. بل أصبح خطر المجازفة بـ “لبنان العربي” موازياً لخطر انفراط حكومة أقامها “الحزب” ثم عطّلها لابتزازها، فإمّا أن تطيعه في ضرب القضاء وحرف التحقيق في انفجار المرفأ أو أنه لن يتيح لها العمل، وإمّا أن تساهم في مشروعه لاجتراح “الكيان اللبناني الفارسي” أو يُسقطها لتكون آخر حكومات كيان عربي في سبيله الى أن يصبح وهماً.

السعودية والدول العربية بل دول العالم كافةً صارت مدعوةً الى الاعتراف بـ “الجمهورية اللبنانية الحوثية” والتعامل معها على أساس تبعيتها لإيران. إذ إن معايير السيطرة وموازين القوى، كما تتحقّق في اليمن الحوثي، باتت تنافس ما حقّقه حوثيّو لبنان والعراق بل تتجاوزه بالأهمية، نظراً الى أن حوثيّي اليمن استخدموا الفتوحات العسكرية لإنجاز “دولتهم” وتشكيل تهديدات “استراتيجية” للدول المجاورة، تحديداً السعودية. ولأنهم أقاموا كياناً معزولاً وقائماً أصلاً على البطش بشعبهم وتطويعه ولا يستطيع أحدٌ زعزعته من الخارج، فقد أصبحوا النموذج الأمثل لمشاريع الخراب التي تخيّلها نظام الملالي. هذا لا ينكر أفضال النموذج الآخر، الحوثي اللبناني، الذي كانت ولا تزال له مساهمته في تصنيع النموذج الحوثي اليمني واستنساخه. وفي لبنان كما في اليمن، أمكن أتباع إيران أن يتصرّفوا بخداع الدولة واختراق مؤسساتها بغية الانقلاب عليها وإلغائها، أما في العراق وسوريا فإنهم يهيّئون للمراحل المقبلة ما يوطّد سيطرتهم إما مع شركاء خاضعين لهم أو من دون شركاء.

كانت الأزمة مع السعودية آتية لا محالة، أياً تكن الإساءات المباشرة وغير المباشرة، فهذه دولة اعتبرت نفسها معنيةً بسوريا ولبنان ففقدتهما أو الأحرى هما فقداها لمصلحة إيران. السعودية لم تغزُ البلدين العربيين، أما إيران فغزتهما باختراق نظام سوريا ثم بعسكرة الشيعة وترهيب الوطنيين منهم ثم باستتباع شريحة من مسيحيي لبنان. لا جدال في مكانة السعودية أو في نياتها الخيّرة للبنان أو في أفضالها المزمنة عليه، وكان حرصها على استقراره دفعها الى أن تكون الضامن الدائم لوضعه الاقتصادي والمالي، بل جعلها تبارك المقاومة (عندما كانت لبنانية) للاحتلال الإسرائيلي بغضّ النظر عمّن يخوض هذه المقاومة، وبعد كلّ عدوان إسرائيلي كانت مساهمتها في تعويض الخسائر هي الأكبر… ولعلّها أول من استشعر تغيّر الحال في سوريا ثم في لبنان، حتى قبل اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، ولا سيما بعده، فصبرت وحاولت تصويب المسارات بالتعامل مع الدولة والحكومة والمؤسسات وفئات المجتمع كافةً، لكنها أدركت أنها أصبحت إزاء ميليشيا تدفعها الى رفع يدها و… المغادرة.

هذه الميليشيا حلّت محل الدولة والحكومة والمؤسسات، وخلال “ثورة 17 تشرين” قمعت المجتمع وأرهبته وأكملت باستغلال الفقر والإذلال لإخضاعه. أصبحت دويلة الميليشيا مستوعبة الدولة وفارضة التعامل معها في أي شأن لبناني، وهي مكتفية حالياً بإيران التي تقدم لها الدعم العسكري والمالي، وبنظام الأسد الذي يحتاج الى مساعدتها للتموّل بالتهريب، وبعلاقات تمويلية مع الشيعة في بلدان “المحور الإيراني” وغيرها، وأخيراً بتعامل مع فرنسا التي تتوهّم أنها بشروطها وباعترافها بالأمر الواقع تستطيع انقاذ لبنان عبر حكومة خاضعة كليّاً لـ “حزب إيران”… هذه الدويلة برهنت أنها ماضية في تخليق لبنان آخر غير ذاك الذي يعرفه العالم، وبالتالي فهي صنعت منطق الـ “لا جدوى” من التعامل معه، حسب تعبير وزير الخارجية السعودي. الدول الأخرى بلغت الاقتناع عينه، لكن حتى الولايات المتحدة التي تقدم دعماً محدوداً للجيش ربما تتساءل عن “جدوى” هذه المراهنة.

السعودية لا تستطيع التعامل مع لبنان كأنها غير معنيّة بمصيره أو كأنه دولة بعيدة تحتاج الى مساعدة مالية. أسوأ ما في الأزمة الحالية وادارتها اللبنانية أنها برهنت للسعودية صحّة تقويمها لما أصبح عليه لبنان. فحين تغرق الرئاسة العونية في حضن “الحوثي اللبناني”، وحين تغطي إساءات حسن نصرالله وجبران باسيل، تكون قد اتّبعت بإصرار خطَّ تفكيكٍ تدريجيٍّ للروابط الخاصة مع السعودية ومع العرب. وأن تضطرّ الدولة اللبنانية لتوسيط الاميركيين والفرنسيين مع الرياض فهذا ليس هزالاً وحسب، بل هو تعامٍ عن أصل المشكلة التي ترغب السذاجة “البوحبيبية” حصرها في التفوّهات “القرداحية” لتسويغ هراءات نعيم قاسم الذي يعتبر أن هناك “عدواناً” يستوجب “اعتذاراً” من السعودية.

شارك المقال