لبنان والعمق العربي

رامي الريّس

ليست علاقة لبنان بالعرب عابرة أو تقليديّة تماثل العلاقات العاديّة بين الدول. كذلك، ليست علاقة العرب بلبنان علاقة سطحيّة. ثمة ما ربط لبنان بمحيطه العربي أكبر بكثير مما ربطه بسائر أنحاء العالم على الرغم من علاقته المنفتحة والوطيدة مع الغرب.

النقاش الذي دار في نهاية حقبة الانتداب الفرنسي، الذي أنشأ لبنان الكبير (1920) وقبل نيل الاستقلال الوطني حول هويّة لبنان، لم يكن نقاشاً عبثيّاً. صحيح أن الخلاف كان عميقاً بين القوى اللبنانيّة حول هويّة لبنان بعد الاستقلال ودوره في المنطقة، ولكنه لم يفضِ إلى إلغاء الهويّة العربيّة للبنان. فاللغة والتاريخ والجغرافيا والتراث كانت أقوى من أن تُشطب أو تُستبعد في الميثاق الوطني الشهير. وعلى الطريقة اللبنانيّة، تخلى المطالبون عن الوحدة مع سوريا عن مطلبهم، وتخلى المطالبون عن الالتحاق بالغرب عن مطلبهم في المقابل.

لا يمكن لأي عاقل أن يعتبر تلك الصيغة كانت مثاليّة، والدليل الأزمات السياسيّة التي استولدتها في العقود التي تلت، لا سيّما في حقبات الحروب العربيّة – الإسرائيليّة ومراحل الانقسام العربي وتصدّعه بين محاور متقابلة. وقد دفع لبنان الأثمان الباهظة نتيجة ضعف دولته وتأثره الشديد بصراعات المحاور الاقليميّة. ولكنها أوجدت لبنان المستقل.

إلا أن علاقات لبنان العربيّة كانت دائماً تشكل مجالاً سياسيّاً رحباً ومتنفساً اقتصاديّاً واسعاً، تمكن من خلاله اللبنانيون الذين يتميّزون بمواردهم البشريّة الكفؤة من المساهمة في إعمار الخليج ونهضته الاقتصاديّة إبان الفورة النفطيّة التي أعادت تركيب المجتمعات الخليجيّة وفق أسس الحداثة والتطور. وكان للبنان hستفادة تاريخيّة من ذلك تمثلت في احتضان الكفاءات اللبنانيّة من جهة؛ وفي الدعم العربي للبنان، من جهة ثانية.

إن حالة الخواء اللبناني الراهن في السياسة الخارجيّة، وانعزال لبنان التام تقريباً عن المحيط العربي بفعل تدهور علاقاته السياسيّة نتيجة التصرفات الرعناء لبعض قياداته، إنما ينعكسان ضعفاً غير مسبوق على مختلف المستويات. لم يسبق أن تدهورت علاقات لبنان العربيّة في العقود الماضية أسوةً بحالتها الحاليّة. لقد أصبح لبنان غريباً عن العرب، والعرب لم يعد لبنان يتصدّر أولوياتهم.

ثمة معضلة كبرى لا بد من الالتفات إليها والسعي لمعالجتها من خلال رفض اختطاف القرار السياسي الرسمي اللبناني، بهدف استلحاقه بمحاور لطالما كانت مناقضة في أهدافها ومشاريعها لطبيعة تكوينه التعددي المتنوع. الخطوة الأولى في هذا المسار تكون من خلال إعادة تزخيم علاقات لبنان العربيّة وتنشيطها بما يتلاءم مع المعطيات التاريخيّة والواقعيّة السياسيّة المطلوبة.

لقد دلت التجارب التاريخيّة الحديثة، بما لا يقبل الشك، أن كلفة ترك لبنان يواجه وحيداً تلك الخيارات المدمرة لواقعه ومستقبله والمناقضة لتاريخه، هي أكبر من كلفة إعادة احتضانه عبر فتح المجال العربي أمامه مجدداً. لبنان لا يمكن أن يكون خارج العرب، والعرب لا يمكنهم البقاء خارج لبنان.

ثمة مسؤوليّة كبرى ملقاة على عاتق لبنان الرسمي، الذي تمت مصادرة قراره السياسي وتهميش خطابه الرسمي وإضعافه لمصلحة الحسابات الفئويّة والمصلحيّة. حققوا مكاسبكم الآنيّة في اللعبة السياسيّة الداخليّة المحليّة الضيقة، واتركوا الشأن الاستراتيجي لذوي الشأن! هذا الاختلال العميق في موازين القوى نتائجه كارثيّة حاليّاً ومستقبلاً. إنه الاختلال الذي أوصل الأمور إلى الحضيض الذي يختبره اللبنانيون راهناً وهو انحدار غير مسبوق بكل المعايير.

لبنان يستحق ألا يترك وحيداً في هذه المعركة الوجوديّة!

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً