“حزب إيران” أنجز سيطرته ولم يبقَ (جزئياً) سوى الجيش والقضاء

عبدالوهاب بدرخان

تكثر المخاوف من انفجار اجتماعي، بسبب رفع الدعم عن الدواء، لكن ماذا حصل بعد رفع الدعم عن الغذاء
ثم الوقود؟ الناس يائسة وفاقدة الأمل في جدوى الاحتجاج وفي وجود أي مرجع مهتمّ بمعاناتها، رئاسياً
كان أو حكومياً أو معارضاً أو حتى “ممانعاً”. كلهم سواء بسواء. لم يبقَ للشعب المهمل المتروك سوى
التكيّف مع أنواع الجوع ومستوياته، ومع عدم القدرة على التنقّل وحصره في الضروري، وعليه الآن أن
يتعايش مع نوبات الألم واحتمالات الموت… لا خوف، إذاً، من انفجار اجتماعي، وقد حصل فعلاً في
“انتفاضة 17 تشرين” فقُضي عليه بالقمع وبغزوات القمصان السود ووحشية شرطة البرلمان وشبّيحة
الدراجات النارية واستحضار الحرب الأهلية بديلاً من التغيير المدني. الانفجار قد يكون باستشراء الاعتداءات
الإجرامية، وهذا في مصلحة منظومة الحكم والسلطة الممثلة أولاً بـ “حزب إيران” المسمّى “حزب الله” وتالياً
بالذين رأّسهم ووزّرهم واستنخبهم، فهي لا تخشى غضب المجتمع وسخطه، معتمدة على “تراث” انعدام
الدولة الذي اعتاده اللبنانيون فاعتمدوا دائماً على أنفسهم وعلى أبنائهم المهاجرين. لكن حتى هذه النافذة
توشك مافيا المنظومة وميليشيا “حزب إيران” أن تغلقاها.

لا أحد في ما تبقّى من الدولة ولا في الدويلة التي تتحكم بها يتألّم أو يعاني من هذا النزيف المتسارع
للكفاءات والقوى الشبابية المغادرة. أكثر من ثلاثمئة ألف هاجروا، وبذل ذووهم جلّ ما يملكون لتأمين
وداعهم المرّ لهم. لا أحد يبالي بمصائر أولئك المهددة أرزاقهم في بلدان الخليج لمجرّد أن “حزب إيران”
يريد زرع خلايا هنا وهناك أو يستدرج تمويلاً من أبناء طائفته الذين استُقبلوا وتأمنت لهم سبل العيش
الكريم لكن سوس الطائفية ظلّ ينخر عقولهم. لذا، فلا أحد يسعى حقاً الى حلّ الأزمة مع السعودية
ودول الخليج، إن هي إلا مشكلة أخرى تضاف الى المآسي المتراكمة، فالبلد خسر ويخسر كلّ شيء
ولم يعد قادراً على إحصاء خساراته، أو على تعويضها ومعالجتها. لكنه يربح بركات الوليّ الفقيه
ودونكيشوتيات حسن نصرالله وتذاكيات ميشال عون وجبران باسيل وهراءات جورج قرداحي وثرثرات
نجيب ميقاتي.

لم يعد هناك داعٍ لأن يرفع نصرالله عقيرته وكأنه في حرب على السعودية ودول الخليج، فهذه الحرب
المفترضة وقعت وانتهت وخسرها لبنان واللبنانيون، ولم يعد فيها مجال للعنتريات ولا لحديث عن “انتقال من الحقارة الى الكرامة، ومن المغلوب الى الغالب” (بحسب فذلكات هاشم صفي الدين). أما الاجتهاد لربط الأزمة بتطوّرات معركة مأرب في اليمن أو بـ “انتصار” نظام بشار الأسد في سوريا ففيه كمٌّ هائلٌ من الغباء والسخافة، حين يكون معلوماً أن روسيا والأسد نفسه يتسوّلان منذ أعوام عودة الخليج إلى سوريا، كلٌّ بطريقته وقنواته الخاصة، وليس لدى أيّ منهما ما يقدمه فعلاً الى الخليج، أو بالأحرى الى سوريا وليس الى النظام. روسيا والأسد يعرفان أن لا معنى لـ “الانتصار” ما لم تتوافر القدرة على تحويله الى شيء من الاستقرار، ولا يستطيعان خداع السعودية ودول الخليج التي تعرف بدورها أنه على عكس روسيا التي تروّج أن الحرب انتهت لتعويض خسائرها لا يزال النظامان الإيراني والسوري يتشاركان استراتيجية مواصلة الحرب، آملَين أن تمكّنهما إطالة الأزمة من تأمين مكاسبهما.

والواقع أن المعضلة، عدا خصوصية التعقيدات، أصبحت متشابهة في سوريا إذ يريد الأسد العودة الى
الجامعة العربية من دون الانفكاك عن إيران، وفي لبنان حيث يقول أقطاب الحكم إنهم يسعون الى حل
الأزمة مع السعودية لكنهم تحت رحمة “حزب إيران” ويصطدمون بحواجزه. مشكلة الأسد كانت أولاً مع
شعبه بمقدار ما كانت مع عقله السياسي، وهو لم يدرك بعد أن إيران ومشروعها عقّدا مشكلته وليس
العرب، وإذ يعتقد الآن أن ما ينقصه هو فقط عودة العرب إليه فإنه لا يخادع سوى نفسه. ما يجمع
النظامين السوري واللبناني أنهما مريضان وأن النظام الإيراني صدّر إليهما سرطانه في طيّات “ثورته”، ولم يعد أيّ منهما قادراً على مساعدة الآخر أو على الاستمرار إلا عبر القناة الإيرانية. وحين كان نصرالله يضغط للمزيد من التواصل اللبناني مع نظام الأسد لم يكن يقصد “التطبيع” بل الخضوع لمشيئة ولي الفقيه.

لا يمكن الرهان على الأسد ونظامه للتخلّي عن إيران، كما يتوهّم المطبّعون معه، على الرغم من أن جمهورهما داخل سوريا يضيق بهذا الوجود الاحتلالي الذي بات يستثمر في بؤس السوريين، كما يفعل مع بؤس اللبنانيين. كذلك لا يمكن الرهان على منظومة الحكم في لبنان كي ترسم حدوداً للاحتلال الذي تفرضه إيران عبر “حزبها”، فالعكس هو الصحيح، أي أن الاحتلال هو الذي يضيّق الحيّز الذي يسمح به للدولة. إذ أنجز السيطرة على الرئاسات الثلاث ومؤسساتها، ولم يبقَ خارجها – جزئياً – سوى الجيش والقضاء، وإذا لم يُطبِق عليهما فربما يكفيه أن يعطّل وظائفهما الدستورية، طالما أنه يدير اختراقات الحدود ويفرمل أي اتهام له في التحقيق في انفجار المرفأ. وإذ يضبط “حزب الاحتلال” بصرامة أداء رئيس المجلس النيابي فإنه لا يهتم بما يقوله رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة، ولا أن يزورا الدوحة والفاتيكان وغيرهما، فهو يعرف أنها زيارات خاصة ولأهداف عائلية وبزنسية، وكل ما يهمه أن يبقيا ملتزمَين الحدود التي رسمها لهما.

شارك المقال