عقم الخطب والخطاب

علي نون
علي نون

إكثار قيادة الحزب الإيراني في لبنان من الإطلالات الخطابية في هذه المرحلة يراد منه القول إن الدنيا بألف خير وتمام، وإن الوهن العام الضارب طولاً وعرضاً في اللبنانيين ودولتهم لا يسري على الحزب ومنظومته وبنيته وماليته ولا على بيئته ولا على تحالفاته المحلية ولا على خياراته المستقبلية في ضوء ما تفعله مرجعيته في طهران… لكن هل تكفي الخطابات والمطولات البلاغية تلك لإيصال رسالة القوة والبأس؟ ام إن ذلك الضّخ التعبوي يؤكد العكس تماماً ويدل على حالة مأزومة وصعبة وغير مألوفة منذ زمن طويل؟

الأمر في حقيقته لا يحتاج إلى كثرة فذلكة لتفسيره ولا الى الضرب في الرمل لفك طلاسمه: من يتابع مسيرة حزب ايران وطريقة شغله يمكنه الافتراض بأنه يواجه اسئلة صعبة ولا يملك عليها أي اجابات سوى الإكثار من الحضور الإعلامي تعويضاً من غياب الحضور الانتصاري المعهود وعن دوام اليقين والاطمئنان إلى متانة البنيان ورحابة البيئة الحاضنة وتلقائية أخذها بأي كلام يقال لها واي خيار يطرح عليها واي سياسة تبلغ بها وأي عدو جديد او قديم يطرح أمامها للشيطنة والتكفير والاتهام… غياب الأجوبة الحاسمة والتلقائية والمعتادة يعني أن الازمة حقيقية وليست من شغل الاعلام المعادي ولا من تركيب الأخصام والاعداء المحليين والخارجيين! وفي ذلك تُوضع في خانة واحدة الكارثة الانهيارية للشأن اللبناني في كل مراتبه، وترافق اندثار قيمة العملة الوطنية وتراجع القدرة الشرائية لعموم الناس، مع تراجع العناوين السياسية المشتركة مع حلفاء الحزب وبين هؤلاء الحلفاء وفي شؤون كبيرة وخطيرة وفعلية… وذلك في زبدته وخلاصته حصل في ظل هيمنته على الشأن العام أو تحكمه بالمسار الوطني الرسمي وغير الرسمي… ولا احد يمكنه ان ينكر حقيقة ان ما كان يريده يتم وما لا يريده لا يتم! لا في الكبيرة ولا في الصغيرة! لا في الانتخابات الرئاسية ولا في تشكيل الحكومات ولا في تقرير الخطوط العامة للسياسة الخارجية اللبنانية ولا في التعيينات العسكرية والامنية ولا في أصغر من ذلك او أكبر… وبالتالي، فإن أزمة لبنان اليوم هي نتاج طبيعي لسياساته وخياراته وارتباطه الاستلحاقي بايران… الجسم المأزوم لا يحرك ذراعاً سليمة! وايران الداخلة في ازمات مفتوحة مع ثلاثة ارباع دول الارض لن تعكس على أدواتها وخدمها وتابعيها إلا تبعات تلك الازمات! وليس العكس هو الصحيح وهذه واحدة من الاسئلة التي لا يملك الحزب في لبنان جواباً يقينياً عليها! اي انه يمكن الجمهورية الايرانية ان تصل في وقت ما الى اتفاق مع الغربيين على الملف النووي والعقوبات المرتبطة به وبغيره لكن ذلك لن يعني تلقائياً تبييض صفحة تابعها في لبنان! وهو الذي انخرط في عداوات وصدامات كبيرة معها ومع دول وشعوب عربية واسلامية نيابة عن طهران! ومتهم بسلسلة قضايا تتصل بالارهاب في اكثر من مكان وعلى مساحة تمتد من جنوب شرق آسيا الى اوروبا الى اميركا الجنوبية! ايران الدولة مثلاً تحكي مع دولة الامارات العربية المتحدة وتتفق معها على تطوير العلاقات في مجالات محددة في حين أن حزبها في الضاحية الجنوبية لبيروت متورط حتى اذنيه في عداء سياسي واعلامي مفتوح مع ابو ظبي! وكذلك الحال بالنسبة الى الكويت او المملكة العربية السعودية… و”قصته” كبيرة وليست صغيرة، وصارت جزءاً من التاريخ وليست عابرة، مع شعوب سوريا واليمن والعراق ومعظم اقطار الخليج العربي !

إدراجه مثلاً في خانة الإرهاب في اكثر من دولة آخرها أستراليا، هو رسالة خاصة به بقدر ما هي رسالة لايران… وتأثيرات ذلك التصنيف فيه تكتسب ديمومة لا تسري على العلاقات بين الدول… الاتفاق النووي كان مثالاً على ذلك: عندما تم التوقيع عليه ايام إدارة السيئ الذكر باراك اوباما تم رفع بعض العقوبات الاساسية عن ايران لكن لم يتغير تصنيف “حزب الله” كتنظيم ارهابي في واشنطن !

وهذه واحدة من امور اخرى تشغل بال الحزب اكثر من المعتاد على ما يبدو… خصوصا ان الامر هذه الايام يتم في ظل ازمة تمويل ملموسة حتى لو جرى انكار ذلك… ثم الاخطر، انه يتم في ظل الانهيار العام في لبنان الذي ضرب بيئته مثلما ضرب غيرها وبالعمق وبطريقة غير مسبوقة منذ الاستقلال عام 1943… ولان عقل الجائع في بطنه وليس في رأسه، فإن الأزمة المصيرية الراهنة أنتجت علامات تبرّم لم تكن واضحة سابقاً وراحت اصوات كثيرة من داخل تلك البيئة تسأل مثلاً عن معنى التورط في حرب اليمن؟ او معنى التعرض للمملكة العربية السعودية والافتراء عليها؟ ومعنى التهجم على دولة الامارات او على غيرها من الدول العربية التي اتخذت خطوات سيادية تتصل بمصالحها الوطنية العليا… ثم كيف تسعى ايران الى اعادة التواصل مع الاميركيين من خلال رفع العقوبات فيما حزبها في لبنان يتهم كل خصم بانه اداة اميركية ويعد اللبنانيين بفتح معركة لانهاء ما يسميه نفوذ الولايات المتحدة في دوائر الدولة ومؤسساتها الشرعية العسكرية والقضائية تحديداً؟!

والواضح الجلي بعد ذلك ان تحالفه مع تيار ميشال عون يتعرض تكرارا لمطبات وازمات كبيرات، أتعلّق ذلك بالموقف الداخلي من مسار التحقيقات في انفجار المرفأ أم بمسار الحكومة أم بالموقف من استقالة الضحل وزير الإعلام جورج قرداحي بعد مواقفه المخزية، أم من قصة العلاقة التنافرية مع الرئيس نبيه بري او غير ذلك من شؤون لا يترك الحليف العوني فرصة سانحة الا ويركب عليها للقول للمسيحيين عشية الانتخابات انه لم يبع لبنان لايران! وانه ليس مديوناً لحزبها في الضاحية الجنوبية وان “التمايزات” كثيرة معه وفي رأسها عدم ملاقاته في نكتة محاربة الفساد! وعدم الوقوف الى جانبه في المعارك المتوالية مع الرئيس بري وعدم “الحسم” مع الأخصام الكثر الذين يهوى عون وصهره جبران باسيل تحميلهم أوزار فشل العهد! وانكشافه التام امام اللبنانيين عموماً وامام الجمهور المسيحي خصوصاً… وفي المحصلة التي تفهم من كل ذلك المسار هو ان الفشل يتيم فيما للنجاح الف أب! والجماعة في جملتها، حكمت وتحكمت بكل شيء في السنوات العجاف الماضية وكانت النتيجة ان لبنان اندثر او يكاد ودولته آيلة الى الخراب التام في كل مرافقها من دون استثناء سوى ذلك الممكن ازاء المؤسسة العسكرية والامنية… واللبنانيون يئنّون من وطأة ذلك الاندثار والانكسار ويعرفون بالفطرة كما بالسياسة كما بالحقائق والوقائع والمعطيات الحسية ان التركيبة التي حكمتهم كانت مكتملة شروط الفشل والكوارث والنكبات: حزب إيران بأدواره التخريبية في الخارج حطم علاقات لبنان التاريخية والطبيعية والجينية مع محيطه العربي مما ولّد ويولّد وسيولّد أزمات لا حصر لها تطال عموم اللبنانيين! ويسعى جهده لتحطيم تلك العرى التاريخية مع الدول الغربية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، مما عنى وسيعني المزيد من الازمات وليس الحلول لما هو موجود منها بكثرة! والتيار العوني من جهته لم يترك طرفاً محلياً واحداً الا واستهدفه بدءاً بالمناخ المسيحي وصولاً الى المناخ الاسلامي بشقيه السني عبر استهداف سعد الحريري، والشيعي عبر استهداف نبيه بري مروراً بطبيعة الحال بالمنافسين المسيحيين وهم من دون مبالغة كل صاحب حيثية سياسية او فكرية او مالية او نظامية او قضائية او حتى دينية! بحيث ان المروحة تضم كبار الموارنة من دون استثناء بدءًا برأس الكنيسة البطريرك بشارة الراعي مرورا بقائد الجيش العماد جوزف عون وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة ورئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي سهيل عبود، وصولاً الى سمير جعجع في الجبل وسليمان فرنجية في الشمال وغيرهما مثل الكتائب والمستقلين!

ما يحصل في جملته يجعل ايام حزب ايران صعبة واستثنائية في صعوبتها ولذا يُكثر الضخّ عن “انتصارات” محوره الايراني في المنطقة لتعويض انكساره في لبنان وانكشاف عجزه عن مواجهة متطلبات السيطرة والتحكم وعدم قدرته على مواكبة التفاصيل اللبنانية… هو حزب يعرف كيف يدمر ويحطم ويعطل لكنه لا يعرف كيف يبني ويعمّر ويشغّل. ولا يعرف، قبل ذلك، كيف يقارب السياسة من منظور مدنيتها وليس دينيتها ولا عسكريتها! ولا كيف يوفّق بين ادائه المذهبي الحاد ورحابة الاجتماع الوطني اللبناني وتعقيداته في ظل وجود وتعايش ثماني عشرة طائفة وملّة! عداك عن الاحزاب والتنظيمات الكثيرة والراسخة الحضور مهما تواضع ذلك الحضور للبعض منها!

لا يملك المراقب المحلي والخارجي إلا ان يفترض ان اوهام حزب ايران اكبر من واقعه ووقائع الدنيا التي يسعى فيها، وهو في ذلك مثل مرجعيته في طهران التي تتوهم ادوارا كبرى وتتطلع الى احياء أمجاد تليدة وهي بالكاد تكون قادرة على تلبية حاجيات الايراني في بلده من الطاقة الى المياه الى الكثير من المواد الغذائية الاساسية الى الحفاظ على قيمة العملة الوطنية والى غير ذلك الكثير من متطلبات العيش وشؤونه وحداثته! ومثلما تهرب القيادة الايرانية من الداخل الى الخارج والمشاريع المستحيلة، يهرب حزب ايران من الفشل الداخلي الى إكثار الحكي عن امجاد وبطولات خارجية! لكن ذلك في كل حال لم يغيّب حقيقة ان انتصاراته المدّعاة هذه الايام صارت محصورة بالقدرة على تأمين باخرة مازوت ليس إلّا!

شارك المقال