أوهام إخراج إيران من سوريا!

اكرم البني
اكرم البني

أربعة أوهام أو رهانات مضلّلة تثار اليوم كخيارات للتخلص من الدور الإيراني في سوريا، بعدما بات مشكلة تعمق حالة عدم الاستقرار والاحتقان الإقليميين وتفاقم حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها المجتمع السوري.

أولاً، وهم الرهان على دور جدي للسلطة السورية في انجاز هذه المهمة، والقصد التعويل على الانفتاح عليها وتقديم الدعم والمساعدات المالية لها، بأمل إضعاف ارتباطها بحكام طهران المأزومين، وتمكينها من الحد من نفوذهم في البلاد أو على الأقل تحجيم دورهم.

لكن استحضار أهم الحقائق والوقائع حول طبيعة العلاقة بين الطرفين والتمعن فيها قليلاً، تُسقط هذا الرهان بالضربة القاضية، وتؤكد على العكس، تماماً، بأن ثمة أسباباً تشجع السلطة السورية على دعم استمرار الوجود الإيراني، ليس فقط بدافع وفاء أهم مكوناتها لهذا الحليف الذي دعمها عسكرياً ومنع اسقاطها، وكان المورد المالي الرئيسي لها في فترات الصعوبات والمحن، وليس لما أحدثه حضور طهران المتعدد الوجوه، وطوال عقود، من تغيير في بنية السلطة ذاتها، بتوثيق روابط بعض رجالاتها بالحرس الثوري، وتكريس نهج مشترك يقوم على استخدام أشد أدوات العنف والفتك للحفاظ على الفساد والامتيازات، وإجهاض مختلف الحلول السياسية التي كان من شأنها أن تشكل مخرجاً للأزمة السورية، وليس أيضاً لما حققه التواطؤ الإيديولوجي بينهما من تبدلات في المجتمع، وذهابهما بعيداً في مخطط التغيير الديموغرافي يحدوه تجنيس وتوطين آلاف الشيعة الغرباء، وليس تالياً لتحسب السلطة وخشيتها من ردود فعل “حزب الله” في حال قررت الانقلاب على طهران، لكن بدافع من الريبة والخوف على حالها ومستقبلها إن اتّبعت خياراً آخراً، مقابل اطمئنان لا يساوره شك أن دوام استمرارها هو من دوام الحليف الإيراني وتعزيز حضوره في البلاد. فأنى لسلطة كالسلطة السورية، وقد باتت اليوم في أضعف حالاتها وخرجت ذليلة ومرتهنة أن تتخذ موقفاً يناهض مصالح الأطراف التي دعمتها ومكنتها من الاستمرار؟ وأنّى لسلطة مرتكبة لجرائم سافرة ضد الإنسانية، وتتحسب من لحظة يمكن أن تخضع فيها للمساءلة والمحاسبة، أن تجد أوفى من الحليف الإيراني المارق كي تنجو بأفعالها؟

ثانياً، وهم الاعتقاد أن روسيا لها مصلحة بإخراج إيران نهائياً من سوريا، بدليل انكشاف بعض وجوه تنازعها مع حكام طهران على الحصص والمغانم، لكن يبقى من الخطأ دفع هذا الاعتقاد إلى حده الأقصى والرهان على نتائج نوعية لتنازعهما، ليس فقط لأن بينهما قواسم مشتركة عديدة ويعرفان أهمية أحدهما للآخر، وإنما أيضاً لأنهما يدركان أن تسعير خلافاتهما نحو الاحتدام سوف يفضي إلى خسارة فادحة لكليهما.

صحيح أن موسكو تعاني من إصرار حكام طهران على حماية ما حققوه من نفوذ إقليمي وأن خطتها في رسم المستقبل السوري بدأت تصطدم برؤيتهم ومصالحهم، لكن يرجح، في ظل تعقيدات الوضع الراهن، أن يميل الطرفان نحو تقديم تنازلات متبادلة وخلق التوافقات، بخاصة أن روسيا لا تزال بحاجة لإيران لتعزيز أوراق النزاع على النفوذ في العديد من مناطق التوتر في العالم، كما للاستعانة بميليشيا الحرس الثوري و”حزب الله” في إدارة المعارك على الأرض السورية، من دون أن يغير هذه الحقيقة ما تظهره موسكو من عدم رضا عن تغلغل طهران في سورية، ورغبتها في تحجيمه ومحاصرته، وأوضح دليل صمتها عن الضربات الإسرائيلية الجوية المتواترة التي تطال ميليشياته.

ثالثاً، وهم الاعتقاد أن المطلب الإسرائيلي لإخراج إيران من سوريا هو مطلب نهائي وقاطع، بل يصح اعتباره الحد الأقصى المعلن شفهياً ويضمر هدفاً أدنى هو الاكتفاء بالتحجيم وتخفيف المخاطر، بخاصة أن تل ابيب تدرك أن قصف طيرانها، مهما بلغ من الكثرة والقوة لا يمكن أن يفضي لانسحاب طهران عسكرياً من الجغرافيا السورية، من دون أن يعني أنها لن تذهب إلى آخر الشوط وربما إلى خيار الحرب، في حال لمست تحولات خطيرة في إيران أو سوريا أو لبنان تهدّد أمنها الاستراتيجي، وهنا يصح الذهاب قليلاً نحو التفكير التآمري لنسأل، أليست حكومة تل أبيب هي أكثر المستفيدين من التسعير المذهبي الذي تنتهجه طهران في المنطقة لتخريب مجتمعاتها وهتك مقومات تطورها واستقلالها؟ وكيف يفسّر الصمت الإسرائيلي على تنامي وزن إيران في العراق وعلى الدخول الكثيف لـ “حزب الله” وميليشيا شيعية متنوعة الأعراق في الصراع السوري؟ ألم ينفعها استمرار فزاعة التهديد الإيراني للضغط على الدول العربية وابتزازها، ومحاصرة مطامع أردوغان الإقليمية، واستجرار المزيد من المساعدات الغربية؟

رابعاً، الوهم ولنقل سذاجة التفكير في التعويل على تفاقم أزمات إيران الاقتصادية والاجتماعية وخسائرها في مناطق تدخلاتها، لإجبار حكامها على مراجعة حساباتهم حول وجودهم في سوريا، وبدافع الالتفات، ليس لتصدير “الثورة” وتحصيل النفوذ عبر تسعير الصراعات المذهبية، بل لمعالجة الأزمات والمشكلات الداخلية، بخاصة أن حياة الشعب الإيراني المنكوب صارت لا تطاق، ويتوق بغالبيته للخلاص من هذه الدورة من المعاناة والآلام، لكن أنى لسلطة إيديولوجية كالسلطة الإيرانية أن تتراجع عن سياساتها التدخلية المدمرة، وهي التي أكدت خلال تاريخ طويل أن همّها الرئيسي، هو الاستمرار في توسيع نفوذها حتى لو كان الطوفان؟ والأنكى أن ليس ثمة مؤشراً واحداً يدل على ان مثل هذه السلطة تهتم فعلاً بما تخلفه سياساتها من دمار وخراب، أو تعبأ بما صنعته اياديها من أوضاع اقتصادية مأساوية وأزمات متراكمة أفقدت الشعب الإيراني أبسط مقومات الحياة، أو بعشرات آلاف الضحايا الذين استسهلت التضحية بهم وبمستقبلهم في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، أو بتصفية وقتل آلاف المعارضين وموجات الاعتقال والتغييب القسري التي طالت عشرات الآلاف من المتظاهرين السلميين الرافضين لاستمرار التسلط والفساد.

شارك المقال