المشهد السوري على عتبة عام جديد!

اكرم البني
اكرم البني

لا يستطيع أحد أن يخفي مشاعر الألم والحزن والأسى لما آل اليه الوضع السوري، خاصة عند من طحنته ولا تزال تداعيات حرب السنوات العشر، أياً كان موقعه ومنبته ومكان تواجده وانتماؤه السياسي أو الايديولوجي، فالمشهد بات أشبه بالخراب المعمم، ولنقل مأساة سوداء طالت الجميع مثيرة اليأس وانعدام الأمل في نفوس كانت تتطلع لبناء مجتمع واعد تنعم فيه الأجيال القادمة بحياة كريمة وبوطن يعتزون بالانتماء اليه.

والمشهد يعني بداية، الاعتراف، مع الأمم المتحدة، بأن ما وصلت إليه سوريا يمكن تصنيفه كأسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، وتغصّ بمئات آلاف القتلى ومثلهم من المفقودين والمعتقلين وتفوقهم أعداد الجرحى والمشوّهين، عدا عن ملايين اللاجئين إلى بلدان الجوار وغيرها، أو الهاربين نزوحاً داخلياً، وقد باتوا بلا مأوى ويكابدون حالة قهر وعوز شديدين. ناهيكم عن وضع اجتماعي واقتصادي لم يعد يحتمل، إن لجهة التدمير الكلي أو الجزئي لأكثر من 30% من المنازل الصالحة للسكن، وإن لجهة انهيار الكثير من القطاعات الانتاجية والخدمية وتهتك الشبكات التعليمية والصحية، وآخر دليل ما خلفته جائحة كورونا من ضحايا، وإن لجهة صعوبة الحصول على السلع الأساسية وتدهور المعيشة مع انهيار القدرة الشرائية وتفشي غلاء فاحش لا ضابط له، ربطاً بمعاناة شبه يومية من صعوبة تأمين مستلزمات حيوية كالغاز ومازوت التدفئة، ومشكلات الانقطاع المتواتر للماء والكهرباء، وارتفاع معدلات الفقر والعوز المالي الى درجة وصلت الى 80% وصار أكثر من نصف المجتمع، أي ما ينوف عن 12 مليون سوري، بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية المختلفة، بينما تفيد التقديرات الأولية بأن سوريا باتت بحاجة لأكثر من 400 مليار دولار لإعادة تأهيلها، وربطاً أيضاً بانتشار ظواهر الفساد والابتزاز المالي، حتى باتت سوريا ضمن قائمة أسوأ الدول فساداً، وأوضح تجلياته تزايد أرقام وودائع أهم ضباط ورجالات النظام في بنوك سويسرا والإمارات وروسيا، واتساع دور السوق السوداء وترويج المخدرات برعاية مسؤولين كبار وأمراء الحرب، وميليشيا حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني.

والمشهد يعني نظاماً لا يزال يعمل، ليلاً ونهاراً، لإيهام نفسه والمجتمع بأنه انتصر حقاً وبأن ما يعتبره مؤامرة عالمية لإسقاطه صارت من الماضي وللإيحاء للعالم ككل بأنه بطل مواجهة الإرهاب، ويزيد الطين بلة ما يرافق الترويج المستفز لهذا الانتصار الزائف من ممارسات ابتزازية وانتقامية ضد المجتمع السوري وعودة مقززة لأساليب الماضي القهرية والتمييزية، ولكن بأشكال أكثر احتقاراً واذلالاً للإنسان وحقوقه.

يبدو ان المسألة التي لم يدركها النظام أو لا يريد إدراكها أن استمراره في السلطة لم يكن سوى الوجه الآخر لانكسار المجتمع وتدميره، وأن ما يسميه انتصاراً هو اكبر هزيمة لوطن كان يقدّر له أن ينمو وينهض كي يحتل موقعاً مشرفاً في سلم الحضارة الإنسانية، وهو انتصار لنهج دأب على قمع وقهر شعب يتطلع لنيل حقوقه المشروعة ككل شعوب الأرض، والأخطر هو انتصار التفريط بسيادة البلاد وتسهيل استباحتها وتطويع مكوناتها في صراع النفوذ بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية على المنطقة، الأمر الذي لم يقف عند الحضور السياسي والعسكري الفاضح للداعمين الروسي والإيراني، بل امتد ليشمل تدخل أميركي لا يزال يحاول الإبقاء على نفوذه بمناطق هامة في شرق البلاد، وسبقه التمدد العسكري التركي وما انتزعه من مواقع على طول الشريط الحدودي، الأمر الذي يعقّد طريق الخلاص أمام السوريين ليغدو مقترناً بمهمة وطنية ملحة هي إخراج مختلف قوى الاحتلال من البلاد.

وما يزيد المشهد ألماً ومأساوية، استمرار الواقع المريض للمعارضة السورية التي لا تزال وللأسف تنوء تحت ثقل نزاعات لا طائل منها ويعيبها عجزها المزمن عن توحيد صفوفها وضرب المثل بسلوك ينسجم مع شعاري الحرية والكرامة، فضلاً عن تقدم وزن جماعات اسلاموية متطرفة، وجدت في مناخ تسعير الصراع المذهبي فرصة ثمينة لفرض وجودها، وإخضاع قطاعات مهمة من السوريين لأجندتها، مدعومة بمال سياسي لا تخفى شروطه وإملاءاته، وبعناصر وكوادر أجنبية على صورتها ومثالها، جاءوا من مختلف البقاع، ويتنافسون على فرض ما يعتقدونه شرع الله على الأرض، عبر إرهاب البشر وإرغامهم على اتباع نمطهم في الحياة وإنزال أشنع العقوبات بحق من يخالفهم. ونضيف أيضاً ما يثيره النهج المتطرف لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، من ريبة وشبهة، مع استهتاره بمصالح ومشاعر من يشاركهم العيش، وتكرار ممارساته القمعية في تهجير بعض السكان العرب قسرياً من مناطق سيطر عليها، واضطهاده لمن يختلف في الرأي معه، من قادة وناشطين أكراد، خاصة ممن ينضوون في إطار المجلس الوطني الكردي.

يزيد الطين بلة التحول الأوروبي والأميركي عن هدف تغيير النظام الى الاكتفاء بتغيير سلوكه، وأيضاً ما تبديه واشنطن اليوم من مرونة في تنفيذ عقوبات قانون قيصر، وتغاضيها عن تنامي الرغبة لدى أطراف غربية وعربية للمشاركة في تعويم النظام السوري والتطبيع معه، وإن من البوابة الاقتصادية، الأمر الذي يمنح هذا النظام فرصة الإفلات من المحاسبة والعقاب، ويمنح موسكو المزيد من الفرص للإفادة من التراجع الأميركي والدولي للتفرد في رسم المستقبل السوري على هواها، وأيضاً لازدراء القرار الأممي 2254 حول الوضع السوري، والتحرر من الاشتراطات المتعلقة بصياغة دستور جديد وخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية وتشكيل هيئة حكم انتقالي.

“أما آن لهذه المحنة أن تنتهي؟!”، هو رجاء البشر الذين باتوا يتوجسون من ذاك الوجع والخراب، ولا يعرفون إلى أي حد مؤلم ومحزن يمكن أن تصل بهم آفاق المستقبل وانعدام فرص الخلاص، أو إلى متى يبقى الاخرون، عرباً وعجماً، يتفرجون على ذلك العنف والعوز والتشرد وهي تنهش لحمهم ووطنهم قطعة قطعة؟ والأنكى حين تغدو المشاهد اليومية للاحتراب والاعتقال والإذلال والفقر أشبه بمشاهد روتينية يتابعونها وهم يحتسون قهوة الصباح ويتهيأون للالتحاق بأعمالهم، ربما لأنهم يدركون بأن ثمة رمال كثيرة في الطريق يمكنهم دفن رؤوسهم فيها!

شارك المقال