السقوط الحر…

علي نون
علي نون

مرة اخرى يقدم رئيس الجمهورية ميشال عون الى اللبنانيين أسبابا اضافية لدفعهم، او دفع من بقي عنده منهم شيء من الرجاء، الى اليأس والاستسلام.

وهم قلّة، هؤلاء الذين ظلوا يفترضون ان صاحب الشأن لا بد له ان يتنبّه قبل فوات الاوان، الا ان هدفه او ضحيته يكاد يضمحل تحت وطأة اكلاف السنوات الخمس العجاف التي مضت من عمر عهده، وان ذلك يستدعي تلطيفا، اذا أمكن، لمقومات الجموح ودواعي تثبيت السيطرة والتمكن وأساليب السعي الحثيث الى توريث الصهر جبران باسيل “شعلة” القيادة الدستورية بعد ان اورثه “شعلة” القيادة الحزبية والعائلية…

وتلك القلّة من المؤمنين او المتمسكين بالمنطق البسيط لتحليل السياسات والارادات والتفلتات والقرارت والشطحات الغريبات والعجيبات، ومدى ملاءمتها كلها لهدف مرتكبها في سعيه… تلك القلّة كانت تفترض ان صاحب الشأن الرئاسي لا بد أن يتنبّه الى عقم أساليبه وخطورتها عليه وعلى غيره، والى انه في الاساس مرجعا للشكوى وليس شاكيا. ورئيسا للجمهورية وليس لتياره. وحافظا وراعيا للدستور وليس لأجندته الخاصة. وساعيا الى إعلاء شأن الوطن وليس بائعًا له. وعاملا على صون مؤسساته وليس معطلا لها. وحاميا لسلطة القانون وليس داعما لمن يتخطاها. ومدافعا عن احتكار الدولة للسلاح ووظائفه وليس منافحا عن سلاح غيره غير الشرعي. ومظلة تردّ الضيم والاذى عن مواطنيه وليس مسببا رئيسيًا لهما. ومثالا يحتذى في نكران الذات وليس مدرسة في الأنا وامراضها. وحكما بين مختلفين وليس طرفا. ومقصدا للمظلومين وليس صاحبا حميما للظالمين. ومحاربا للفاسدين وليس حاميا لهم. ومنفّذا امينا لوعوده الاصلاحية وليس متجاهلا لها على طول الخط. ومحافظا على دور لبنان في محيطه العربي وليس راعيا لأخذه الى محور ايراني معاد ومضاد لكل العرب. وانه في الخلاصة كان يمكنه ان يكون رئيس كل السلطات بأدائه وترفعه وإيثاره المصلحة الوطنية العليا وليس رئيس العائلة ولا التيار ولا الطائفة… وليته تنبّه الى ان معيار القوة هو ترسيخ وحدة الحال الوطنية وليس النقر الطائفي البغيض. ولعب دور الوسيط العادل وليس الطرف المستبد برأيه. والملتزم خطاب القسم وليس اجندة صهره جبران. والمؤتمن على دستور الجمهورية وليس اول واكثر واخطر من يسيء الى بنوده ويشطح غُبّ الطلب في تفسيره!

قرأت قبل ايام ان أرملة فخامة الجنرال فؤاد شهاب ماتت مطلع التسعينيات من القرن الماضي على سريرها الحديد في منزلها الزوجي المتواضع في مدينة جونيه… وكان في حسابها البنكي اقل من الف دولار اميركي، وان البيت حيث اقامت مع زوجها الرئيس الراحل كان من دون تدفئة ولا يحتوي في الاساس على اي مظهر من مظاهر الابهة او الفخامة او الفساد… ولا اعرف لماذا عصف الحزن بكياني كله: على السيدة الاولى في زمنها التي ماتت وحيدة في منزل بارد؟ ام على زمنها الذي انتج خامة وقامة من طراز فؤاد شهاب؟ ام على الجنرال صاحب الفخامة نفسه الذي كان اقوى الاقوياء في تاريخ لبنان باحترام اللبنانيين له من عكار الى بنت جبيل ومن بيروت الى الهرمل لانه احتكم الى الدستور ووضعه في يمينه واقسم على المحافظة عليه والعمل بموجبه وجعل منه كتاب الفصل في كل خلاف ونقاش؟ ام على رفعة الاداء الذي يحفظ الامانة والمقام؟ ام على رجال الدولة الكبار الذين شرّفتهم الوظيفة العامة وتشرّفوا بها؟ ام على القامات التي ارتقت بالانتماء الوطني من دون الذم بالأصل المذهبي او الطائفي؟ ام على نظافة الكف التي تورّعت عن المس بالمال العام والحرام؟ ام على النبل الذي اعطى للفخامة اناقة مضافة؟ ام على عزّة النفس التي أبت بصاحبها ان يقاسم اكلة الجبنة غنيمتهم الملعونة؟ ام على النقي الذي لم يقبل لوثة السطو على المشاع العام؟ ام على الضمير الحي الذي رفض بناء مجد شخصي على أشلاء انقسامات مريرة وحرائق آتية؟ ام على وطن كان درّة الشرقين فصار مسخرة العالمين؟ ام على أيامنا هذه وسقوط البنيان والكيان وانتكاسة الدولة ومؤسساتها وماليتها واقتصادها وأدوارها وعلاقاتها وهويتها وهيبتها ودستورها وقوانينها ومقاماتها التي كانت جليلة؟

ام على كل ذلك في جملته طفح الحزن وطاف، وأخذ معه ما بقي من آمال متواضعة بغدٍ أقل سوءًا…

شارك المقال