إنه حكم الساديين يا سادة…

الدوري
الدوري

تتربع على العروش مقامات صغيرة تتلذّذ بألم الأتباع والخصوم، وتتلاعب بعواطفهم ومعنوياتهم دونما هوادة بالترهيب والتخويف المتكرر. تقتات على امتصاص دماء الجرحى في ميادين الكرامة وتستيقظ كل صباح بعد ليال من السكر في مجالس المديح المبالغ والسجائر النتنة والنكات المستوحاة من نتوءات النزف الملتهبة للبنانيين وبقايا آمالهم. قلّما يبالي هؤلاء بأحوال الشعب، لكنهم يصرون على وجوده وإلا فأين قوت العذاب وأين “بروميثوس” الذي سيسكن شهوتهم السادوماسوشية بشكل مستمر؟

يتلصّص هؤلاء من جحورهم ومن قصورهم على الشعوب التي تثور فتذبح وعلى القادة الذين يخضعون لرغبة الملايين فيصبحون وقود محارقهم. وتنطبق عليهم معايير السادية كما قدمها علم النفس كي نقول اعتدلنا في الحكم. فالعروش اللبنانية مكبلة بالجذور المتعفنة لعاشقي الألم الذين يتفننون بإيلام أنفسهم وبإيلام الآخرين. كيف ذلك؟ من هو ذلك القادر على الاستمتاع برؤية جلده وهو يذوب فقرا وذلا بينما يمسح جلود التماسيح التي تزداد خشونة يوما بعد يوم حد العصيان على التمزق. من هو ذلك القادر على التصفيق بمعدة خاوية وبألم مضن لمن أتخم طمعا وجشعا وعبثا بموارد الآخرين؟ ومن هو ذلك القادر على ربط مصيره بصخور تتدحرج من دون توقف وبعنف أكبر، إلى الهاوية.

2021 هي نشوة السادية يا سادة بالنسبة لهؤلاء! لقد شهدوا على موت غريزة اللبناني حد رفضه الإنجاب خوفا من الانتظار في المستشفيات ومن تكاليف الانجاب وحاجات الأطفال. تلصّصوا عليه وهو يفر من حياته الزوجية خوفا من الاصطدام بحصى من الطلبات. تلصّصوا عليه وزوجته تفرّ منه خوفا من المناكفة حول قحط الأموال. تلصّصوا عليهما يعدّان الأرغفة المتبقية في الكيس اليتيم، والبيض الذي يكاد يبيض ذهبا والخضار التي قلما يهتمان باصفرارها بعد اليوم. هو خريف حياة وخريف طعام وخريف أمل.

لقد شهد الساديون على اللبناني واللبنانية وهم يتأملون كأنما أمام ساعة زمنية، الأسعار وهي تقفز قفزتها الدقائقية مع تصاعد موجات الدولار. تأملوا الطلاب وهم يعدون ما تبقى من أوراق بيض في كراريسهم، وما بقي من مناديل في جيوبهم والعمر المتبقي لحذائهم. تلصّصوا عليهم وهم يخشون التصادم مع أهلهم لدى طلب المال لابتياع مزيل التعرق أو جل الشعر أو العطر أو حتى معجون الأسنان والفوط الصحية. لقد تلذّذوا بالانهيار الكلي للعائلة في صومعة الذل. رب وربة الأسرة العاجزان عن تأمين أقل الحاجات والأهم من ذلك، عن منح الطمأنينة للعائلة، والأبناء والبنات العاجزون حتى عن استيعاب العقاب الذي ألحق بهم بلا ذنب، والأطفال الذين لم يألفوا أصلا من هذه الأرض حتى الساعة سوى الفارق ما بين الثمين والرخيص، علما أن ما رخص ثمن وما ثمن غاب.

يستكملون التلصّص أيها السادة… بعدساتهم التلسكوبية الكونية. ويا ليتهم يديرونها قليلا باتجاه الحضارة. ليس على بوصلتهم سوى الشرق، وعلى خريطة الشرق ليسوا سوى قطبا مهجورا… بيدقا موقتا بالكاد. يناكفون اخوة الوطن بمال وبموارد من الأفق الملغوم، كأنما خريطة كنز لم يرَ منها أحد بريقا. يُكثرون الحديث والمديح والتلويح والتهديد والوعيد… فتتوارد إلى الأذهان حكمة قديمة: “أن نندم على الصمت أفضل من أن نندم على الكلام”. لكن في أي مواضع؟ لقد صمت الساديون حين توجب الكلام وتكلموا في معرض الصمت.

نطقوا بالشتائم وبنكران الجميل وبرفض الجذور وغاصوا في عنجهية المنظومات العقائدية التي تطوّع حسب السياق والحاجة. تحدوا الكون بأسره وأغرقوا القانون ومروا كالعادة مرور الكرام على الحقوق. ثم صمتوا… صمتوا أمام هوان الناس وأمام كفرهم بالحياة. صمتوا أمام الصقيع الذي تسلل إلى صدور الرضع وصمتوا أمام المتوفين صمتا في منازل لم تستوِ إيجاراتها بعد. صمتوا أمام طالبي الاقتصاص من المجرمين وصمتوا أمام ابتلاع عاصمة بأسرها. صمتوا أمام موجة مغناطيسية تركت كل الأرواح المتساقطة معلقة بين عزاء وعدالة. وصمتوا بينما سحقت هذه الموجة عينها آخر نبضات الكرامة لديهم أمام العالم بأسره.

هكذا هم الساديون… وإن لم تتغير هذه المعادلة قريبا، سنصبح بدورنا ساديين يا سادة!

شارك المقال