في عبث الانتظار

علي نون
علي نون

مثلما انه لم يكن هناك من داع لانتظار كلمة الرئيس ميشال عون الاخيرة لمعرفة فحواها “العميق” و”روحيتها” وطبيعتها، فانه لا ضرورة ايضا لانتظار كلمة صهره جبران باسيل كلما اعلن انه سيحكي، لمعرفة ما سيقول و”روحية” قوله و”طبيعة” فحواه ومبناه ومنتهاه!

الرجلان القريبان يغرفان من طنجرة واحدة… ويشربان من سطل واحد… ويتصرفان وفق برنامج متطابق من دون عوارض او اختلافات او حركشات غير مأنوسات… بل الحق يقال انهما لولا فارق العمر يشبهان توأما يكمل احدهما الآخر! واذا زحط الاول زحطة ما بفعل الزمن والعمر وكثرة الشغل، يتلقفه الثاني فورا ويعيد تصويب الرمي والنقاش والقرار وكأن شيئا لم يكن!

والاثنان مميزان في تاريخ لبنان الحديث والقديم، ولولا غرابة الاجتماع السياسي اللبناني وتنوعه المتعب وتعدد الرؤوس الحامية والباردة فيه وكثرة “مراكز القوى” في بنيانه، لكان بالامكان الاستناد الى ذلك التميز المركون عند ذلك الثنائي للقول ان اللبنانيين لا يستحقونه! بل انهم يشكون من سوء الطالع فيما العلّة فيهم! ولا دخل للاقدار بها، بل هي من صنع ايديهم، او بالاحرى نتاج طبيعي لطريقة تفكيرهم والتواء اساليبهم وانتماءاتهم الغلط! وهذا لعمري ذروة التوهان وقلّة التدبير اللذين اوصلا في الخلاصة لبنان وهم معه الى الحضيض… او الى المكان الذي “وعد” عون بايصالهم اليه، ووفى بوعده!

الاثنان على الرغم من ذلك، اظهرا ويظهران رحابة غير قليلة: كان بامكانهما معاقبة الناس، هؤلاء التائهين الغافلين، على نكرانهم وتوهانهم وغشيانهم وابتعادهم بالتالي عن الأخذ بالفرصة التي يقدمانها لهم! واستثمارها بحكمة وبعد نظر للخروج مجددا الى الضوء! واعادة النور والالق الى بلاد الارز! واشاحة العتمة عن ايامهم ولياليهم من خلال وهجهما الساطع وممارساتهما النبيلة وافكارهما السارحة فوق عاديات البشر! ونبل مراميهما، ووضعهما دائما وابدا، مصلحتهما الذاتية والشخصية والانانية في ركن قصي وبعيد لان مصلحة الوطن هي الأولى والأبدى والأهم، ولا شيء يتقدم عليها حتى لو كان هذا الشيء هو بالتحديد “فرصة العمر” التي يقدمانها من دون اي مقابل… لكنهما آثرا كالعادة، الرأفة بهؤلاء جميعا! و”تفهّم” أوضاعهم ونفسياتهم التعبانة نتيجة الاقامة المديدة على شجرة ازمات المنطقة والمحيط، ومعاناتهم جراء ذلك من دوخة النظر الطويل من فوق الى تحت! وليس هذا بقليل اذا افترضنا ان ذلك الصلب على الشجرة مستمر منذ نحو خمسين عاما واكثر! وان الناس حتى ولو كانت غاشية، لديها قدرة محدودة على التحمل وتجنب تداعيات وتبعات بقائها في المكان عينه، لفترة طويلة!

هكذا اذن أخذ ذلك الثنائي المميز ويأخذ اللبنانيين بصدره الواسع! ويبدي ازاءهم كل هذا الفيض من العطف والحنو الأبويين، وكل ذلك الجهد الضميري من اجل إنزالهم عن الشجرة! وأخذهم الى أماكنهم الاولى: الى البلد الذي كان، والرفعة التي كانت، والوفرة التي طافت، والإبداع الذي شاع، والانفتاح الذي استشرى، والحرية التي طال غنجها وغناها، والثقافة التي احتفلت بروادها، والفنون التي سرحت مع رعيانها فوق الحدود والسدود، والأناقة التي طبعت الطباع والتطبع، والالق الذي استعار من الشمس انواره من دون وسطاء، والنمو الذي اُريد استنساخه، والحداثة بكل ضروبها، والليرة وعزّها… والخصوصية الاقتصادية الناجحة بعموميتها والفاشلة بتفاصيلها! وغير ذلك الكثير من أسباب ذلك الوطن الذي كان من زمان!

الثنائي المميز ذاك، أراد ويريد ان يعلّم اللبنانيين منهج العودة الى الماضي من اجل بناء دولة الاصلاح، لكنه راح بعيدا في دروسه حتى اوصلهم الى ماضي الماضي! والى ما قبل قبل قبل الدولة والبنيان الدستوري والكياني… أعادهم الى زمن العتمة والمحل والعوز العميم، والى ايام ما كانت الناس فيها تنتظر فرمانات الوالي بل تراها وتلمسها وتعرف مضامينها سلفا وبالفطرة ومن خلال التجربة والمراس… وتصلّي كي تكون البلايا اقل من المعتاد!

هذه حالنا وتلك احوالنا، ولا داعي لأي انتظار كي يُعرف المسار مع هذا الثنائي المميز بامتياز!

شارك المقال