ليس للجنرال من يحاوره… ولو في كذبة الاستراتيجية الدفاعية

عبدالوهاب بدرخان

باقٍ عشرة أشهر على نهاية هذه الولاية الرئاسية المشؤومة، وقد تُختم الجمهورية ليكون ميشال عون آخر رؤسائها، فبعدها ستُدشّن “إمارة حسن نصرالله” كما أمِل صاحبها في بداية التزامه الولاء للوليّ الفقيه، وكما نظّر نائبه. وقبل أيام، قال عون أنه لا يريد أن “يُخاصم” أحدا، ولا “تفكيك الوحدة” في أي طائفة، ولا يريد أن يكون شاهداً على “سقوط الدولة واختناق الناس”، بل يريد أن يعمل حتى آخر يوم من ولايته ومن حياته “لمنع ذلك”. ولا بدّ أن مَن حبَّر له الخطاب يتمتّع بموهبة السخرية السوداء لأنه أنطق رئيسه بكل ما ارتكبه فعلاً وجعله يؤكّده في معرض نفيٍ لا يصدّقه أحد. في العادة كان الرؤساء حريصين على أن يكونوا / أو يحاولون البقاء فوق الخلافات وقريبين من كل الطوائف، أما “الجنرال” فبدأ واستمر، بفضل صهره التعيس وحليفه الأتعس، رمزاً للتفريق لا للتوفيق.

كيفما ينتهي العهد فإنه سينتهي من دون أن يدرك هذا الرجل أنه المساهم الأول في “سقوط الدولة” وليس شاهداً عليه فقط، والملام الأول عن “اختناق الناس” بحكم منصبه، ولأنه سيغادر المشهد وقد صمّ أذنيه وأغمض عينيه لئلا تزعجه المآسي التي صنّعها وحليفه “حزب إيران” ولبس هو تبعاتها. حليفه يستثمر في بؤس اللبنانيين ويخيفهم بسلاحه وإجرامه متحلّلاً من أي وازع ديني أو أخلاقي. وصهره يواصل بهلوانياته ليوهم “تياره” بأنه الامتداد الطبيعي لـ “عهد” بات في مزبلة التاريخ. لكن الأكاذيب انكشفت، سواء في اصطدامها بالقضاء والقضاة، أو في مواجهتها للاستحقاق الانتخابي، أو في العزلة العربية التي فرضها “الحزب” على البلد. كان الوجود المسيحي في النظام ضماناً لـ”لبنان الكبير”، وعندما حوّله “التيار” أداةً لـ “الحزب” وقاطرةً للمشروع الايراني أفقده قيمته وجدواه، ولم يعد يوفّر غطاءً أو ضماناً لأحد أو لشيء. بالعكس، أصبح “التيار” حالة سرطانية، لا لطائفته فحسب بل للبنان عموماً، ومريضاً كورونياً يحاول استمداد الاوكسيجين من الفيروس عينه، من “الحزب”.

كل مَن يعتقد أو يصدّق أن “التيار” قادرٌ، على الرغم من كل ما أصابه، على الانفكاك عن “الحزب” يكون واهماً. والسرّ ليس في “التفاهم” المكتوب بينهما، بل في التفاهم غير المكتوب الذي شكّل ولا يزال إلتقاء الأحقاد العونية مع السموم الإيرانية. وهذا التفاهم غير المكتوب هو ما يدير اللعبة الشيطانية بين الحليفين. كانت الأحقاد ولا تزال على “اتفاق الطائف” وأطرافه وطوائفه وعلى صيغة العيش المشترك، لأن “الجنرال” أراد أن ينتقم ممن عارضه يوم انقلب على الدولة والنظام في 1988. أما السموم فكانت ولا تزال تعمل لتغيير وجه لبنان وقد أودت به الى ما هو عليه الآن. صار اللبناني يقول اليوم تلقائياً: “خلص البلد”… تماماً كما يمكن أن يقول السوري واليمني والعراقي عن بلاده. وهي هذه العبارة التي تطرب طهران لسماعها، فتتأكّد أن مشروعها يُنجز ويتقدّم، وأن “إمارات” أتباعها باتت قائمة ولو على الخراب.

لا يستطيع “التيار” الخروج من تحالفه مع “الحزب” لأن ما يمسكه الأخير على قادة العونيين، في تآمرهم على البلد، كثير وكفيل بأن يدمّر سمعتهم نهائياً، فرداً فرداً، فهو يعرف كل شيء عما هو أبعد من فسادهم، ولا يهتمّ بما يعرفونه عن فساده الشامل. حتى في لحظة احتضاره، لا يجرؤ “العهد” على الخروج عن طاعة حليفه / سيّده، إذ يطلق ثلاثيّته: اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، الاستراتيجية الدفاعية “لحماية لبنان”، وخطة التعافي الاقتصادي. هذه ليست وصيّة عهد مودِّع، بل فقاعة خادعة لا تختلف بشيء عن كل ما تفوّه به خلال ولايته، متأرجحاً بين الظنّ بأنه إنْ تفوّه فقد أنجز وإن لم ينجز فاللوم على الآخرين وعلى “الصلاحيات”.

كل هذا الكلام لم تعد له مصداقية، فمن يخرّب وطناً لا يمكن أن يعيد بناءه، خصوصاً متى كان تابعاً لـ “حزب” لا يروم غير الخراب، ولا يتكلّف عناء الردّ على عون عندما يسأل: “بأي شرع أو منطق أو دستور، يتم تعطيل مجلس الوزراء، ويُطلب منه اتخاذ قرار ليس من صلاحياته، ويتم تجميد عمله بسبب مسألة لا تشكّل خلافاً ميثاقياً؟”. لا بدّ أن أيّ ردّ حقيقي من “حزب إيران” سيذكّر عون بأنهما عملا سوياً على دفن الدستور، وبأن لا شرع أو منطق خارج ما يراه المرشدان المحلي والإيراني، أما “الميثاق” فانتهكه الحليفان مراراً وصار رايةً تُرفع نفاقاً عند الضرورة وترمى تحت الأقدام عند المصلحة، ولا داعي لأن يعاود عون الاستشهاد به. الواقع أنه ليس لدى الحليفين، ولا عند ثالثهما “حركة أمل”، أي مشروع للبنان، وإلا لكان طرحه عندما أصبحت لهما غالبية في البرلمان، لكن ما ظهر هو الانهيار الاقتصادي والمالي.

بقيت لدى “حزب إيران” ورقة “تغيير النظام” وقولبة البلد، وحاول الرئيس البائس أن يطرحها بما تيسّر من بضاعته القديمة أيام كان معارضاً لمجرّد أنه ينتظر ترئيسه، لا لأن لديه مشروعاً اصلاحياً لم تظهر منه مبادرة حقيقية واحدة بعد ترئيسه بل عمل على إفشال أي محاولة إنقاذ استباقية للاقتصاد. ترك “الحزب” رجله في بعبدا يمارس ثأريته وتصفية الحسابات. وقد فاخر أحد العونيين أخيراً بأن بين انجازات “الجنرال” أنه “أنهى” الحريرية والجنبلاطية. ولعل ما يستكمل الثأرية وتصفية الحسابات هو القضاء على سمير جعجع ونبيه بري، لتصبح الفيديرالية ممكنة أو متاحة، ومفتاحها هو “اللامركزية المالية” التي أدرجها عون في “اصلاحاته” ونسبها زوراً الى “وثيقة الوفاق الوطني”. فلا جمرك على الحكي.

يحلم عون بأن تشكّل الانتخابات النيابية المقبلة “استفتاءً” على ورد في خطابه الأخير. يظن أن اللبنانيين، كالعونيين، لا يزالون ينتظرون ما يصدر عنه، ويتجاهل كونهم جرّبوه واكتفوا. أما كذبة أكاذيب “العهد” فتتمثّل بـ”الاستراتيجية الدفاعية” وبقوله إن “المسؤولية الأساسية هي للدولة”. لا أحد يمانع تعاوناً بين الجيش والشعب والمقاومة، شرط أن تكون “المقاومة” لبنانية، وأن لا تكون منظومة ارهابية في خدمة إيران ضد شعوب سوريا واليمن والعراق. كان “حزب إيران” طلب أن توضع “الاستراتيجية الدفاعية” في التداول، واستجابة لذلك نسيها طوال ولايته، وإذ ألقاها أخيراً في سلة حوار جديد دعا إليه فلأنه على يقين بأنه لم يبق لـ “الجنرال” مَن يحاوره.

شارك المقال