محنة التجنّي ومأزق الجاني!

علي نون
علي نون

ليس امرا عابرا او قليل الدلالة ما يحصل عندنا هذه الايام: كلما صعّد حزب ايران من عدائيته إزاء المملكة العربية السعودية تحديدا والمجموع العربي عموما، ظهر في المقابل امران لافتان. الاول هو رد الفعل من قبل جمهور لبناني واسع لم يعد يطيق او يقبل او يستسيغ الافتراء والتجني والاستمرار في دفع اثمان حروب ذلك الحزب نيابة عن الاصيل الايراني. والثاني هو الاستنتاج التلقائي أن تكبير الكلام وتصعيد لهجة الخطاب وزيادة منسوب الشتم ومفردات التجنّي على الرياض وقيادة المملكة، يدل ذلك كله، على ان صاحب الحملة مأزوم بنسبة اعلى من المعتاد… وبأن أزمته مستفحلة، وبأن هناك شيئا غير واضح بعد جرى ويجري على عكس هواه ومبتغاه وتوجهاته وسياساته ومعاركه الكثيرة.

والحسبة الطبيعية هي انه كلما تصاعدت الخسائر والنكسات ميدانيا في اليمن جرّاء تنامي قدرة الدفاعات السعودية على احباط الموجات المتوالية من العدوان الصاروخي وبواسطة الطائرات المسيّرة على البنى والاهداف المدنية داخل المملكة، وكلما تبيّن ان التكتيكات المتبعة في مفاوضات فيينا لا تسر ّخاطر صاحب الشأن في طهران، رفعت ادوات ايران في لبنان واليمن والعراق وسوريا وتيرة الضخّ والطخّ سياسيا واعلاميا وميدانيا في كل إتجاه، وبما يترك للمشغّل الايراني حرية الحركة والاستثمار بالاتجاهين: إتجاه الرد بالواسطة على الانكسارات الميدانية، واتجاه التلويح للمفاوض الغربي في فيينا بالاوراق التي يملكها في حال لم يحصل الانصياع لمطالبه! وتلك سيرة مألوفة عند “المفاوض” الايراني الذي يعرف حدود قوته التقليدية المتواضعة ازاء الكبار لكنه يحاول التعويض عن ذلك من خلال المسار الآخر، غير التقليدي ولا السوي ولا المقبول في عالم اليوم.

يحرّك ادواته بالصواريخ والمسيّرات المفخخة صوب خواصر يَفترض هو انها رخوة او هيّنة ويطلق العنان لموجات موازية من صواريخ التجنّي والافتراء والسب والشتم بما يؤدي، في حسبانه الى توصيل الرسالة! وهذا في جملته لا يفعل سوى زيادة نسب الانكشاف والضعف واهتراء منطق الاستثمار في العدوان والارهاب لتحقيق غايات سياسية مريضة ومدمّرة.

لم تكن الحال في لبنان مشابهة لتلك التي في العراق مثلما هي اليوم: نفوذ ايران صار اقل من الإدعاءات والمبالغات التي احاطت به طويلا. والناس، اهل البلدين صاروا اكثر حساسية ازاء السياسات المدمرة لأتباع طهران، التي اوصلتهم الى كوارث لا حصر لها ولا عدّ… وصاروا اكثر إستعدادا لاشهار مواقفهم والتبليغ عن تبرّمهم الاكيد من كل تعبيرات ودلائل ذلك النفوذ الايراني المستوطن بينهم… لم يعد العراقيون، او اكثريتهم (مثلما تبين في صناديق الاقتراع) يقبلون بتمويه اسباب نكباتهم المتناسلة ومسؤولية ايران عن ضرب مركزية الدولة ومشروع انهاضها من كبوتها الطويلة وتغوّلها في الاستثمار بالمعطى المذهبي المدمر لضمان ديمومة نفوذها وطموحها ومشروعها عبر ادواتها الميليشيوية الكثيرة والخطيرة… الا اذا اُريد لنا ان نفترض ان مقتدى الصدر يعمل بأجندة اميركية! وان المرجع السيستاني يغطيه لاهداف غير وطنية ولا اسلامية! وان مصطفى الكاظمي أيضا يعمل على خدمة المشروع الصهيو – اميركي في العراق! و”يتآمر” على محور الامجاد والانتصارات والبطولات، الايراني التوجيه والتدبير والتوظيف! وان السواد الاعظم من اهل البصرة والنجف وكربلاء والناصرية وغيرها من حواضر الجنوب (الشيعي!) همّ بيئة حاضنة للارهاب الداعشي!

مأزق ايران في العراق اكبر من ان تغطيه شعارات لا معنى لها ولم تعد مقبوضة من احد… واخصامها هناك ليسوا من الذين يمكن وصمهم بكل شر ممكن والافتراء عليهم! وما عكسته صناديق الاقتراع هو، في واقع الحال، استفتاء غير مسبوق على ايران ودورها وسياساتها اكثر من كونه تصويتا على من يملك اكثرية نيابية في برلمان بلاد الرافدين!

وكذلك الحال الى حدّ ما في لبنان مع اختلاف الهوى والهويات والاهواء: معظم اللبنانيين يعرفون سلفا وصاروا يعرفون اكثر كيفية التفريق بين من ساعدهم ويساعدهم على الدهر ونوائبه وعلى السعي لانهاض الدولة ودورها ومؤسساتها والخروج من طوق الازمات المتناسلة، ومن تسبّب اصلا واساسا في وصول احوالهم واحوال بلدهم الى الحضيض والى كسر كل محاولات العودة الى سوية عيش وعلاقات طبيعية او شبه طبيعية!

يعرف هؤلاء بالتأكيد ان المملكة العربية السعودية لم تطلق النار عليهم وعلى بلدهم. ولم تستثمر في مآزقهم ونكباتهم… ولم تطلب يوما ان يكون بلد الارز مشيخة تدور في الفلك الخليجي او السعودي! ويعرفون يقينا أن الرياض كانت المحّفز الاول والداعم الاكبر لمشروع انهاء الحرب واعادة إنتاج “مشروع” الدولة وإكمال جاهزيته ومؤسساته… وانها تصرفت وتتصرف إزاء اللبنانيين باعتبارهم مكونا عربيا واحدا ومواطنين يحملون هوية لبنانية جامعة وواحدة وليسوا مذاهب وطوائف ترعى وتحضن وتسلّح وتموّل بعضهم خدمة لمشروعها وتطبيقا لمواد دستورها!

ويعرف معظم اللبنانيين ان المملكة العربية السعودية هي آخر دولة او جهة يمكن اتهامها بأنها تكيد المكائد لهم ولبلدهم او تعمل على المتاجرة بهم وباستقرارهم ودمائهم او تستخدمهم وقودا لطموحاتها او مشاريعها او اوهامها…

ومأزق ايران في نواحينا متأتٍّ ايضا من اتساع مدار المتيقنين من ان أتباعها هم الذين خطفوا الجمهورية واهلها لخدمة اهداف واجندات لا مصلحة لهم فيها. وهم الذين تسببوا بفيضان أزمات لا سقف لها بحكم انهم تحكموا بكل شاردة وواردة على مدى السنوات الماضيات… وكانوا وحدهم في ذلك التحكم الذي اوصل الى جهنم! لم تعطل السعودية عجلة الدولة اللبنانية من اجل إنتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية بل ايران وحزبها من فعل ذلك. ولم تتدخل في تركيبة حكومات هذا العهد المنحوس بل ايران وحزبها من فعل ذلك. ولم تأتِ الى لبنان بالعدوان والصواريخ والمسيّرات المفخخة بل حزب ايران هو من ذهب اليها عبر اليمن وغيره! واللبنانيون، بالفطرة والمراس والتجارب المتراكمة، يعرفون التفريق بين من يريد بهم شرا ومن يريد بهم خيرا… وهذه حقيقة لا تغيرها مطولات الشتم والسبّ والافتراء والتجنّي البغيض!

شارك المقال