لكل أولوياته وليس في حساب أي من الفرقاء تقديم التنازلات من أجل أولوية الأولويات التي هي موضوع إلحاح يمكن أن يكون حجراً أساسياً من أحجار المباشرة العملية في معالجة الفلتان القائم في البلد اقتصاديا ومالياً ومعيشياً، أي إقرار الموازنة من أجل أن الإقلاع بالمفاوضات الجدية مع صندوق النقد.
كان إقرار الموازنة أولوية الأولويات بهدف تسريع المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، نظراً إلى أن الدول التي ترعى إمكان تقدم لبنان على طريق الحلول تعتبر أن توصّل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلى “اتفاق الإطار” مع صندوق النقد قبل الانتخابات النيابية سيوفر على لبنان سنة من الوقت الضائع الذي يرجح أن يقبل عليه. فديبلوماسيو العواصم الكبرى والمسؤولون في الهيئات المالية الكبرى المستعدة لإنقاذ البلد من الارتطام الكبير أدركوا منذ أشهر أنه من الملح أن يتم التوصل إلى اتفاق مع الصندوق قبل الانتخابات النيابية لأنهم يأخذون في الحساب، بل بعضهم يرجح، أن يصعب تشكيل حكومة بعد الانتخابات، لأن الأزمة السياسية الطاحنة التي تدمر حياة اللبنانيين وتحبط آمالهم بإمكان تصحيح الوضعين المالي الاقتصادي تدريجياً، ستستمر على الرغم من قيام مجلس نيابي جديد، ومهما كان ميزان القوى الذي سينتج عنها. والتخوف من وصول البلد إلى فراغ حكومي جديد بعدها قائم وقد يستمر إلى ما بعد استحقاق الانتخابات الرئاسية.
بانتهاء هذه الانتخابات تتحول حكومة ميقاتي إلى حكومة تصريف أعمال، لا تخولها صلاحياتها البتّ في اتفاق مع صندوق النقد، مما يعني تأجيل هذا الاتفاق الذي هو مفتاح أي حلول مهما كانت طويلة الأمد، إلى ما بعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، مما يعني أيضا خسارة سنة جديدة من وضع الحلول على السكة، هذا إذا لم يكن أكثر من سنة نظراً إلى احتمال حصول فراغ رئاسي أيضاً، قد يمتد أشهراً…
الإصرار على إقرار الموازنة لم يأتِ من عبث. وإلحاح الحاجة لاجتماع مجلس الوزراء لهذا الغرض لم يكن مجرد تحدٍ للفريق الذي يعطل اجتماع مجلس الوزراء، استناداً إلى شرطه فصل ملاحقة الوزراء والنواب في ملف انفجار مرفأ بيروت، عن صلاحيات المحقق العدلي القاضي طارق بيطار، ليتولى هذه الملاحقة البرلمان عبر لجنة تحقيق برلمانية والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. بل جاء انطلاقاً من الحاجة إلى إنقاذ الاتفاق مع صندوق النقد قبل حصول الانتخابات النيابية في 15 أيار المقبل.
حتى الأمس، قرار الثنائي الشيعي أنه لا اجتماع لمجلس الوزراء على الرغم من المراهنة على إدراك رئيس البرلمان نبيه بري للأولوية القصوى لهذا الأمر، في سلسلة الخطوات المطلوبة من لبنان. لكن أولويته إيجاد المخرج لمطلب الحدّ من صلاحيات التحقيق العدلي في ملاحقة النواب والوزراء. أما “حزب الله” فأولويته خوض المعركة مع أميركا من فنزويلا إلى بيروت وليس لجم ارتفاع الدولار حتى لو كان إقرار الموازنة واجتماع مجلس الوزراء يساعد على ذلك.
ليس بعيداً أيضاً فإن أولوية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفريقه هي خوض المعارك الأقرب إلى المناكفات مع الرئيس بري حول الصلاحيات في شأن المواضيع التي على البرلمان أن يناقشها ويقرها خلال الدورة الاستثنائية، وتحدي رئيس البرلمان بدءاً من محاولة تقليص مدة الدورة إلى شهر، الأمر الذي رفضه بري، فضلاً عن طموحات صهره رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الى العودة إلى تعديل قانون الانتخاب من أجل تحقيق مطلبه بالإبقاء على المقاعد النيابية الستة لقارات الاغتراب، بعدما حال “اللاقرار” في المجلس الدستوري دون قبول الطعن بإلغائها من قبل البرلمان.
همّ الفريق الرئاسي ليس إقرار الموازنة بل التوهم بأن الرئاسة تستعيد المبادرة السياسية في السلطة بعد تعطيل حليفه “حزب الله” مجلس الوزراء الذي يريد منه غنيمة التعيينات الإدارية، عبر الدعوة إلى الحوار لمناقشة عناوين تحتاج لأشهر من أجل البتّ بها، على الرغم من الإغراء الذي يقدمه هذا الفريق لمعارضي الحزب، كي يقبلوا دعوة عون بالقول إن طاولة الحوار هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لبحث مسألة سلاح “حزب الله”. هذا فضلاً عن ريبة أكثر من فريق بأنها تستهدف استخدام القادة السياسيين الذين يمكن أن يتحلقوا حول طاولة الحوار للإيحاء بأن الرئاسة حققت إنجازاً ما في آخر سنة من العهد الذي انتهى سياسياً قبل انقضاء السنوات الست. وهو ما دفع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط إلى مطالبة عون بوضع حد للمعارك التي يفتحها باسيل مع الفرقاء كافة الذين لن يحضر كثر منهم الحوار.
تتجه السياسات السوداء، التي من رحمها تنمو وتتمادى السوق السوداء لسعر صرف الدولار، بالبلد إلى المزيد من الصراعات والتجاذبات بدلاً من إيجاد مخرج ما في شأن أولوية إقرار الموازنة. فالأولويات الفئوية التي يطرحها بعض الفقهاء لا تُصرف في أي سوق لمصلحة استعادة شيء من الاستقرار بإطلاق الحلول للمعضلة الاقتصادية. فـ”حزب الله” بإصراره على معاركه الخارجية في مواجهة رفع شعار “الاحتلال الإيراني” من قبل قوى محلية معارضة لسياسته، يهرب إلى الأمام بالتصعيد ضد المملكة العربية السعودية، وبعدم اكتراثه لتعطيل اجتماع مجلس الوزراء ولأولوية إقرار الموازنة حتى لو كان لها التأثير الإيجابي في الوضع المالي. ويهاجم رئيس الحكومة، على الرغم من سعي الأخير إلى تدوير الزوايا معه، بسبب رفضه خروج الحزب عن مبدأ النأي بالنفس عن صراعات الإقليم، فيعيد تحلق رؤساء الحكومات السابقين حوله ويؤجج الاستقطاب السنّي الشيعي مجدداً، وينعكس على التعبئة الانتخابية في شكل تلقائي.