لبنان لا يؤخذ بمدفع

محمد علي فرحات

“لبنان لا يؤخذ بمدفع بل يؤخذ بمرسوم”. و”المراسيم” المتناقضة التي تُدمّر اليوم حياة اللبنانيين السياسية والإقتصادية، بدأت منذ الانسحاب السوري وانصراف الزعامات إلى صراعاتها البينية بعدما كانت خاضعة لضبط الإيقاع من دمشق. ولهذا الأمر حكاية مختصرها أن النظام السوري أجرى، عمليّاً، تعديلا في اتفاق الطائف فألغى البنود المتعلّقة بانتخاب مجلس نواب غير طائفي واقتصار تمثيل الطوائف على هيئة دستورية أخرى اسمها مجلس الشيوخ. هذا الإلغاء هو ما أتاح لقيادة الإستخبارات السورية العاملة في لبنان أن تضبط إيقاع التناقضات بين زعماء لبنانيين أتى معظمهم من قيادة الحرب الأهلية التي أنهاها اتفاق الطائف.

وبدأت “مراسيم” هدم النظام السياسي اللبناني المعهود تتوالى لمصلحة هذا وذاك من الزعماء، حتى تقزّمت الدولة وتعملق قادة الطوائف، ووجد المواطنون أنفسهم مجددا أسرى عصبيات عمياء سبق أن خبروا، ومعهم العالم كلّه، ويلات صراعها على البلد الصغير. ولننظر إلى “المراسيم” المتناقضة وقد عرقلت وتُعرقل انتخابات البرلمان والرئاسة الأولى، كما تُعرقل تشكيل الحكومات وعملها، حتى بات وقت التعطيل أطول من وقت العمل في مؤسسات الدولة الرئيسية، وصولاً إلى خنق القطاع الخاص، وهو ما أدّى إلى فوضى غير معلنة وإلى سرقة أموال عامّة بذرائع مختلفة أو بصمت مريب.

يعيش لبنان اليوم في حرب باردة، وعلى مساحته المحدودة وفي يوميات شعبه شبه الجائع، تزدحم قوى محليّة وإقليمية وعالميّة، أحدثها وأبرزها القوّة الإيرانيّة التي تسللت من خلال مساعدة مقاومة “حزب الله” للاحتلال الإسرائيلي، فطردت سائر المقاومات وأخرست قوى سياسية كثيرة في جنوب لبنان، وبينها قوى راسخة ومعترف بها من جميع اللبنانيين. ولم يبقَ إلى جانب “حزب الله” سوى حليفه اللدود حركة “أمل” التي يقودها سياسي محنّك هو رئيس البرلمان نبيه برّي وتستند إلى قاعدة واسعة متروكة لشأنها، بما في ذلك انقضاض أفكار طائفية متزمّتة آتية من العراق تسرح وتمرح من دون حسيب أو رقيب.

حرب باردة في لبنان يخوضها القادة المسيطرون، ويسعى معظمهم إلى تجفيف الذاكرة الشعبيّة لتقتصر على عهدهم البائس. كأنّ لبنان لم يكن موجوداً قبل الحرب الأهليّة ولم تكن له نهضة في القطاعات كافة، ولم تكن له علاقاته العربيّة والدوليّة وانفتاحه على حضارات العالم. ويركّز تجفيف الذاكرة على تلقين المواطن ما يريد الزعيم فتُقفل في وجهه الكتب القديمة وذكريات الآباء والأجداد. ومن المفارقات ترويج شعارات العداء لأميركا بالمطلق، في تكرار واضح لشعارات المتطرفين الحاكمين في طهران، فلا تُذكر أميركا إلاّ ويُذكر معها السباب والشتائم، علماً ان العلاقات بين الشعبين اللبناني والأميركي تعود إلى أكثر من قرن وربع القرن، وإن لبنان بشخص إبنه جبران خليل جبران هو أحد العناصر المشكّلة للروح الأميركية الجامعة أفكاراً ونتاجاتٍ من أنحاء العالم. ليست أميركا حتى في نظر المبتدئين كتلة متراصّة صمّاء. إنها روح تجمع أرواحاً من أنحاء العالم، وهنا سرّ أهميّتها على الرغم من أخطاء كثيرة ارتكبها ويرتكبها الحاكمون في واشنطن.

هل يصدّق الرئيس الإيراني حقاً أن اللبنانيين شعب ساذج يتمّ تلقينه بسهولة كراهيّة شعوب أخرى قريبة أو بعيدة؟ ومن أحدث التلقينات التهجّم المتفاقم على دول الخليج العربيّة وأبرزها المملكة العربية السعودية، بمجرد أن للرياض موقفا سلبيا من “حزب الله” وتدخلاته في المنطقة العربية. ولن يستطيع هذا التلقين المتسرّع أن يُنسي اللبنانيين، إلى أي طائفة انتموا، أن العلاقة قديمة بين الشعبين اللبناني والسعودي وهي باقية على الرغم من عواصف المنطقة، فعدا الفائدة المادية التي جناها مئات آلاف اللبنانيين من عملهم في دول الخليج، هناك مؤثرات متبادلة إنسانية، وثقافية، تجعل القرابة الفكرية والروحية حقيقة ماثلة لدى الشعبين في النخب وفي أوساط الناس العاديين. فضلاً عن أن السعودية هي الآن ابرز ما بقي للعرب بعد انهيار سوريا والعراق، وهذا ما يدركه اللبنانيون جيداً.

يبدو القادة الحاليون الآتون من زمن الميليشيات في صورة الخائف الذي يخيف الآخرين، والأمّي الذي يرمي الحجارة على المتعلمين، والسارق الذي يحجب صورة أهل الفضيلة، والخارج على القانون الذي يعتبر خروجه قانوناً بديلاً. هذا الوضع غير قابل للحياة على الرغم من مظاهر جبروته وقهره لطبيعة الحياة. ولن يُكتب الإستمرار لضيق الأفق الذي يتحكّم بساسة لبنان الحاليين، خصوصا أولئك الذين تخرّجوا من بنادق الحرب الأهلية السيّئة الذكر ومن خطابها الفئوي المزعوم وطنيّا.

شارك المقال