دفاعاً عن “الفكرة اللبنانيّة”

رامي الريّس

ليس هناك من عاقل أو قارئ سياسي يستطيع أن يتغاضى عن التداعيات السلبيّة التي ستتولد تباعاً عن قرار الرئيس سعد الحريري العزوف عن المشاركة في الحياة السياسيّة وإنعكاس ذلك على مستوى التوازنات الوطنيّة التي تتعرّض أساساً لإختلالات عميقة على أكثر من صعيد ونتيجة أكثر من سبب.

إن هذا الانكفاء سيترك فراغاً كبيراً على المستوى الداخلي كما على مستوى علاقات لبنان الخارجيّة التي سعى الحريري الإبن، كما الحريري الأب من قبله، إلى تنشيطها وتفعيلها بشكل غير مسبوق ساهمت في إستعادة لبنان لحضوره على الساحتين العربيّة والدوليّة بعد أن كانت صورة الحرب الأهليّة وتعبير “اللبننة” قد تكرّسا لدى الرأي العام الدولي ووسائل الإعلام الأجنبيّة.

لم يُحسن أخصام الحريري قراءة أهميّة هذا الدور في الداخل والخارج. في الداخل، حفظ التوازنات الوطنيّة وفي الخارج توطيد علاقات لبنان الدوليّة وتثبيت موقعه وهويته العربيّة من خلال إبقائه في إطار الحاضنة العربيّة التي تسعى أطراف إقليميّة أخرى من خلال أذرعها المحليّة إلى سلخه عنه، وها هي تنجح في تحقيق هذا الهدف المدمر.

مهما يكن من أمر، ما حصل قد حصل. لقد سال الكثير من الحبر في تحليل أبعاد هذه الخطوة وتوقيتها وظروفها، وقد يكون بعضها لامس الحقيقة، فيما عكست أصوات أخرى الأحقاد الدفينة التي يختزنها البعض ليس ضد الحريريّة السياسيّة فحسب -إذا صح التعبير- إنما ضد كل الصيغة التي يمثلها إتفاق الطائف وقد أصبحت جزءاً من الدستور اللبناني.

لقد مارست هذه الأطراف، على مدى سنوات، أقصى ضغوطها -بالترهيب والترغيب- لتغيير قواعد اللعبة وفرض أعراف جديدة نفذت من خلالها لشل المؤسسات وتعطيل أحكام الدستور وضرب التوازنات المحليّة تحقيقاً لأهدافها الخاصة وبعيداً عن أي إعتبار لمقتضيات المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة.

لقد أصبحت المعادلة الوطنيّة أكثر إختلالاً، ولكن لا مفر من متابعة المسيرة التي شقّها الأحرار بدمائهم وبنضالهم للحفاظ على هويّة لبنان العربيّة ولرفض إلحاقه بالمحاور الإقليميّة التي لا هم لها سوى تحقيق مآربها ومشاريعها التوسعيّة التي تماثل المشاريع الاستعماريّة القديمة ولو بشكل ونمط جديدين.

إن السكوت عن التمدّد المتواصل لتلك الأطراف إلى كل مفاصل الحياة الوطنيّة والسياسيّة اللبنانيّة في الدفاع والأمن والإقتصاد والاجتماع إنما يعني الاضمحلال التدريجي وفقدان لبنان لدوره ورسالته. إن إنضمام لبنان إلى محور الظلام يعني نهايته وإنكساره وتلاشي فكرته.

نعم، ثمّة “فكرة لبنانيّة” عكست حضورها في الحريّات والانفتاح والثقافة، في الجامعة والمستشفى، في التأليف والطباعة والنشر، في التفاعل الحضاري… إذا كان هناك من ملاحظات جوهريّة حول أسس النظام الإقتصادي اللبناني وطبيعة تكوينه الريعي وتهميشه للأرياف والفقراء، فإن ذلك حتماً بحاجة إلى معالجة جذريّة وشاملة، ولكن هذا لا يلغي أن “الفكرة اللبنانيّة” هي فكرة جديرة بالحياة والبقاء لأن البديل عنها هو الانغلاق والظلاميّة والتقوقع.

شارك المقال