خيارات اللبنانيين: “الحريرية” و”العونية” و”الشيعية السياسية”

عبدالوهاب بدرخان

لا أحد يستطيع التنبّؤ بتداعيات تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي، لكن استشهاده بعبارة والده الشهيد رفيق الحريري “استودع الله سبحانه وتعالى هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيّب…” يدعو جميع اللبنانيين، وليس السُنّة وحدهم، الى تذكّر الوقائع التي توالت بعدها، بدءاً بذاك الاغتيال الوحشي الذي هندسه النظامان السوري والإيراني ونفّذته أداتهما المحلية، وصولاً الى الأزمة الحالية بكل جوانبها الكيانية والسياسية والاقتصادية، كما عبّرت عنها بنود الورقة / المبادرة الكويتية. ليست الظروف العامة لاعتكاف الحريريَين متشابهة إلا أن دوافعهما تبدو واحدةً الى حدٍّ ما، فالاثنان أرادا وحاولا أن يكون هناك مشروع لإنقاذ لبنان، ولم يكن لديهما دائماً الشركاء الوطنيون الذين يدعمون مشروعهما أو يضيفون إليه سعياً الى استعادة الاستقلال والسيادة. وفي كل الأحوال لم تكن لدى الخصوم مشاريع بديلة سوى دفع لبنان نحو الهاوية.

حورب الحريري الأب من نظام بشار الأسد وأتباعه لأن إنهاض لبنان كان بالنسبة إليهم نهجاً مؤرقاً ينهي الاحتلال السوري الاسدي، الذي كانت عمالتهم له سبباً ومصلحةً وحيدين لوجودهم، لم يعش الأب ليرى الخراب الذي بدأ، لكن دمه كان ثمن زوال ذلك الاحتلال وإن لم تزلْ شروره وأحقاده. ثم حورب الحريري الإبن من أتباع نظام الملالي لأنه سار على النهج عينه، مدركاً أنه لا يملك القدرات عينها وأن المتغيّرات العربية والإقليمية لا تسانده، فالخصوم وظّفوا دم والده وحلفائه لترهيبه، واتخذوا من التسويات التي عقدها بروح وطنية وحفاظاً على الدولة والعيش المشترك منصّاتٍ لترسيخ الاحتلال الإيراني.

كثُر أخيراً الناعون لـ “الحريرية” السياسية ويريدون دفنها سريعاً، متجاهلين مَن حاربها ولماذا، ومتعامِين عن بدائلها المشؤومة التي يتوعّد “حزب إيران/ حزب الله” اللبنانيين بها. لكن “الحريرية” لم تعد مرتبطة بأشخاص معيّنين أو بـ”الفراغ” الذي يتركونه وراءهم، مقدار ارتباطها بمَن يستطيع أن ينقذ البلد والشعب من المصير الذي يقودهما إليه الاحتلال و”حزبه”. وإذا كانت “الزعامة السنّية” هي ما يُقصد بالحديث عن “الفراغ”، فإن المشكلة أكبر من طائفة ومن زعامة، فـ “حزب إيران” استطاع أن يحوّل المكوّنات اللبنانية الى أنصاف مكوّنات أو شراذم تستمرّ أبواقها السقيمة في تسويغ الاحتلال وتمجيده. لذلك فإن “الفراغ” الحقيقي المفزع هو غياب “الزعامة الوطنية” القادرة على توحيد اللبنانيين وقيادتهم في كفاحهم المزدوج من أجل البقاء والخلاص من الاحتلال.

لن تغيّر زيارة ميشال عون لدار الفتوى شيئاً في الموقف السنّي العام من “التيار العوني” أو “الباسيلي”، ولا من تحالف هذا التيار مع “حزب الاحتلال”. جاءت الزيارة غداة تأكيد أن الطائفة السنّية لن تدعو الى مقاطعة الانتخابات، وأراد عون منها أولاً تسجيل انتصار “العونية” الممقوتة مسيحياً على “الحريرية” التي يمثّل اعتكاف سعد الحريري في نظره هزيمةً لها. أراد ثانياً القول إنه ليس ضد الطائفة وكأن السنّة لم يفقهوا المغزى الرئيسي لـ “تفاهم مار مخايل” ولم يروا كيف أن عون سلّم الدولة الى “المحور الإيراني” ووضع “اتفاق الطائف” والوفاق الوطني والسيادة والاستقلال في تصرّف الاحتلال و”حزبه”. وأراد عون أيضاً أن يقنع السنّة بأن لديهم خياراً آخر غير “القوات اللبنانية” في التحالفات الانتخابية، وكأن السنّة نسوا أن قانون الانتخاب استهدف بشكل مباشر التلاعب بتمثيلهم وإضعافه لمصلحة “حزب الاحتلال” وحليفه العوني، بل ان السنّة ارتضوا على مضض حجج الحريري لقبول ذلك القانون كـ “تضحية” من أجل “التسوية الرئاسية” التي استخدمها عون وسيّده الإيراني أبشع استخدام للتحكم بالحكومة وعملها ولدقّ إسفِينٍ بين الحريري وطائفته.

كان الخطر الحقيقي الذي شكّلته “الحريرية” السياسية منذ ظهورها الى الآن أنها فكرة ومشروع عابران للطوائف، وأن لها بعداً وطنياً تراكمياً وآخر إعمارياً تنموياً. وإذ تعامل معها النظام الأسدي على أنها من أدواته، في إطار ما عُرف بالـ “سين – سين”، لكن أهدافه التسلّطية وطائفيته الكامنة جعلته دائم السعي الى احباط فاعليتها داخلياً وخارجياً، ودائم الحذر منها لأنه لم يتمكّن من ضبط تفلتها من المنظومة التي أقامها، فضلاً عن أنه التقط تأثيراً لها لدى سنّة سوريا، وإنْ لم تتقصّده. وبعد انسحاب الاحتلال الأسدي، في سياق “انتفاضة الاستقلال” عام 2005، توافق الورثة، مِن “حزب إيران” وأذنابه ممثلي نظام دمشق الى أتباعه من “عونيين” وغيرهم، على أن عدوّهم الأول هو “الحريرية” حتى بعد اغتيال الحريري الأب. لذا عمل “الحزب” على عرقلة التحقيق في الجريمة/ جريمته بارتكاب المزيد من الاغتيالات، وجهد لحماية المجرمين متجاوزاً العدالة بحملة شعواء على المحكمة الدولية… كل ذلك وغيره حفر تاريخاً أسوداً لـ “حزب إيران” في ذاكرة اللبنانيين، وليس السنّة وحدهم، وكان ميشال عون خلاله بوقاً جاهزاً للتغطية على الجرائم وتبريرها وإبعاد مسؤوليتها عن حليفه، حتى عندما طاولت ضباطاً عسكريين وأمنيين (ليسوا جميعاً من السنّة) يقومون بواجباتهم.

ليس صدفة ولا تعمّداً أن يُطرح مصير “الحريرية” بالتزامن مع عودة شبح القرار 1559 ليخيّم على الدولة و”حزب الاحتلال” المسيطر عليها، فالذين اغتالوا رفيق الحريري قالوا بطرق متعددة أنهم كانوا “يعاقبونه” على دعمه إصدار هذا القرار على الرغم من أنه لم يكن صاحبه ولا صانعه، وواضح أنهم غفروا لعون مفاخرته بأنه صاحب “قانون محاسبة سوريا” وصانعه في الكونغرس الاميركي. ولم تكن مطالبة الورقة الكويتية بجدول زمني لتنفيذ القرار 1559 من قبيل التحدّي المفاجئ للدولة اللبنانية، لأن تنفيذه مطلب دائم في قرارات مجلس الأمن والقمم العربية والخليجية من قبيل الدعم لدور الدولة ومكانتها، وسيظلّ كذلك الى أن يصبح السلاح كلّه في يد المؤسسات الشرعية العسكرية والأمنية. خلافاً لذلك، ستتكرّس نظرة العالم الى لبنان كبلد بلا دولة، تحكمه عصابة مسلّحة، ولا يمكن دعمه بأكثر مما يبقيه على قيد الوجود. داخلياً ستبقى “الحريرية” العابرة للطوائف خياراً لمن يتبنّى أهدافها، أياً تكن طائفته، أما الخيار الآخر فبات مقتصراً على “الشيعية السياسية” وما استجرّته من خراب على لبنان وسوريا والعراق واليمن…

شارك المقال