السنّة وبيروت ولبنان: تلازم المسار والمصير

أحمد عدنان
أحمد عدنان

في آب/أغسطس ٦٣٥، فتح المسلمون بيروت في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وكانت أطلالاً، فرممها وحصنها بالقلاع قائد الجيش ووالي دمشق معاوية بن أبي سفيان، وحولها قاعدة عسكرية تصد هجمات الروم، وتنطلق منها حملات المسلمين البحرية، ونضرب المثل بفتح قبرص الذي انطلق من قاعدة بيروت، ولا يدري أحد لولا رؤية معاوية وقراراته ما كان مصير بيروت.

ويذكر محمد علي مكي في تأريخه للبنان بين العرب والعثمانيين، موقفين كبيرين لرمزين سنيين طبعا تاريخ لبنان الى يومنا هذا: تفضيل الخليفة معاوية ونصرته للموارنة على اليعاقبة، ومساواة الخليفة الوليد بن عبدالملك بين المسيحيين اللبنانيين وبين رعاياه المسلمين بمعايير ذلك الزمن.

في عهد المسلمين الأوائل كانت بيروت ملحقة بدمشق، وحين جاء الصليبيون ألحقوها بمملكة بيت المقدس، وكان الدور التجاري والسياسي الذي أدته لاحقاً في الأساس لمدينة عكا ثم حيفا.

وعلى الرغم من تركيبتها الفسيفسائية، تمسكت بيروت تاريخياً بالعمق السُنّي هويةً وثقافةً من دون إغفال دور واسهام وأصالة رومها الأرثوذكس، فكما أن مصر هبة النيل، يمكن القول إن بيروت هبة السُنَّة، إذ ارتبط صعودها وإحياؤها أولا بأحوال الدولة العثمانية عموما وجبل لبنان خصوصا، ثم بمبادرات سُنية أهمها تأسيس الصحف وإطلاق مؤسسات المجتمع المدني، حتى منطقة الأوزاعي ذات الغالبية الشيعية اليوم، تعود تسميتها إلى فقيه سنّي كبير عاش ومات في بيروت وحظي باحترام الحكام المسلمين لورعه وعدله، ولا يُنسى من جهة أخرى فضل تأسيس الكلية الإنجيلية (الجامعة الأميركية) والجامعة اليسوعية في قيامة بيروت، بحيث شكلت الجامعتان نقطة استقطاب للشباب الصاعد في لبنان وبلاد الشام وبعض العرب، وكان تأسيس الجامعتين في بيروت مؤشر صريح على انفتاح وتسامح أهلها.

ويمكن تقسيم حقبة الدولة العثمانية مرحلتين – أقله بالنسبة للبنانيين، الأولى مرحلة الدولة الجامعة، حين كانت الخلافة أو السلطنة لكل رعاياها أو مواطنيها، والثانية مرحلة الدولة التركية العنصرية، والتي تحولت فيها الدولة للترك واختارت أن تكون محتلة لغيرهم. وفي كتاب سمير قصير “تاريخ بيروت” نلمس عرفاناً ظاهراً منه للمرحلة الأولى، موثقاً إنجازات الدولة الجامعة في بيروت وفضلها عليها.

تاريخان كَتبا لبيروت ريادة متوسطية، الأول تأسيس نظام المتصرفية عام ١٨٦٠ نتيجة الحروب الأهلية في جبل لبنان، ونجم عن ذلك لجوء نخبة الجبل – الذي كان أكثر تمدّناً بحكم الرعايات الأجنبية – إلى بيروت كمدينة آمنة ومنفتحة، وشهدت تلك المرحلة احتضان بيروت للقنصليات والسفارات، وتبعت ذلك نهضة سياسية بيروتية تتويجاً لنهضتين اقتصادية وثقافية، وكان العنوان العريض لتلك المرحلة إنشاء العثمانيين ولاية بيروت التي ضمت أجزاء من شمال لبنان امتداداً إلى الساحل السوري وجبال العلويين، وضمت كذلك صيدا وجنوب لبنان الراهن والجليل الفلسطيني مع لسان جغرافي يصل إلى نابلس. كانت صيدا مرفأ رئيساً، لكن رفضها لإقامة منطقة للحجر الصحي البحري (كرنتينا) حوّل بيروت إلى مرفأ رئيسي ونقل إليها البعثات الأجنبية.

أما التاريخ أو الحدث الثاني، فيكمن في نهاية الحرب العالمية الأولى، التي تلت إعلان وعد بلفور عام 1917، وقد أشار إلى أن أرض فلسطين ستشهد مآسٍ وكوارث، ومن نتائج ذلك هجرة النخب التجارية الفلسطينية إلى بيروت، وأيضاً أفول الأثر التجاري لميناء حيفا لمصلحة بيروت، والحقيقة أن اتفاقية السلام الابراهيمي اليوم يجب أن تدفع العقل البيروتي – القائد للعقل اللبناني – الى مواكبة المتغيرات بدلاً من أن يقوم مرفأ حيفا على أنقاض تفجير المرفأ.

أخذت بيروت من السُنّة مجدها وأعطتهم تميزهم، وبما أن بيروت هي قلب لبنان قولاً وفعلاً، فقد ضخت الدماء المتوسطية والمدينية إلى الأطراف، شمالاً وجنوباً وبقاعاً، وهذا ما ميّز بيروت عن وجاهة طرابلس ووجاهة صيدا. وفرادة بيروت أضفت طابعاً خاصاً على سُنّة لبنان، فلم يقعوا في أفخاخ الإسلام السياسي أو العسكريتارية، كما جرى في عواصم سنّية مثل دمشق وبغداد والقاهرة إلى بعض المغرب العربي، وهذه الفرادة لا بد من صونها وتوسعتها.

الهوية السنية الأصيلة لبيروت تتكامل مع هوية عروبية راسخة، ونضرب المثل بحادثتين، الأولى إقدام جمال باشا السفاح على إعدام الشباب القوميين العرب في ساحة المرجة بدمشق، وساحة البرج في بيروت، في 6 أيار 1916، وحضر رجال بيروت في قائمة الشرف: الشهيد الشيخ أحمد طبارة، الشهيد عمر حمد، الشهيد عبدالغني العريسي، وقبلهم الشهيدان محمود ومحمد المحمصاني. والحادثة الثانية تمثلت في إعلان فيصل الأول لمملكته العربية في سوريا عام 1920، انتفضت بيروت تضامناً مع الفيصل كرمز عربي، لكن هذا التضامن تم قمعه سريعاً.

في تاريخ السُنّة ولبنان وبيروت، مثّل رفيق الحريري حقيقة أن الاعتدالات السنية واللبنانية والإسلامية متلازمة ومتسلسلة، وحين قال سعد الحريري “لبنان أولاً” صالح نهائياً بين السُنة اللبنانيين وبين مفهوم الدولة الوطنية مستكملاً نهج والده الذي استكمل نهج المؤسس رياض الصلح، ليشكل “تيار المستقبل” رمزية لانسجام لبنان مع الشرعية الدولية، وتمسك السُنة بالاعتدال العابر للهويات المتناغمة، وارتباط لبنان بمحيطه العربي الكبير والدائم.

ويُلزم الحديث عن بيروت والسُنة تناول أوضاع مؤسستين رئيستين، الأولى هي “جمعية المقاصد الإسلامية” المعنية بالتربية والاستشفاء (أسست عام 1878)، والثانية هي دار الفتوى التي يتصدرها مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان.

“المقاصد” التي استدعاها الملك فاروق لتزاول نشاطها التربوي في مصر، واقتبست النظام العلماني في التعليم من المؤسسات الأجنبية في ريادة نادرة، وامتد نشاطها ليشمل الأطراف السُنية الفقيرة، تناقلت أخيراً وسائل الإعلام أخباراً مؤسفة عنها، في مشاهد تشير إلى أجواء إفلاس في تماه أمين مع أوضاع البلاد. لكن ليست هذه المرة الأولى، فقد حام شبح الإفلاس والاغلاق فوقها سنة 2012، كما حام قبلها أواخر التسعينيات.

أصبح اسم “المقاصد” مرتبطاً بالأزمات بعدما ارتبط بالإنجاز، أزمة 2012 أمكن تجاوزها ببيع عقار قيمته 10 ملايين دولار، وتولى الرئيس رفيق الحريري تسديد ديون الجمعية (نحو 30 مليون دولار) قبيل استشهاده. وفي إحدى أزماتها المتكررة باعت الأسهم التي تملكها في شركة “سوليدير”.

منذ توقف الحرب الأهلية، قدم الخليج دعماً سنوياً للجمعية توقف سنة 2009 تقريباً، وقيل ان سبب التوقف انعدام الثقة وليس التخلي وفق مصادر غير رسمية. فالعجز أصبح دورياً، وانتظمت الديون بدل انتظام المشاريع، والدليل على حسن النية الخليجي تقديم السعودية دعماً مالياً عام 2017 تجاوز المليون دولار، وفي عام 2016 سلمت دولة الإمارات “المقاصد” مستشفى شبعا (مستشفى خليفة)، وقدمت دعماً سخياً إلى مستشفى “المقاصد” في بيروت، وفي 2019 افتتح السفير السعودي مركز الرياض الطبي للعناية الفائقة الذي أسس بهبة سعودية.

ويبدو أن تضعضع الثقة امتد إلى اللبنانيين أنفسهم، فذات رمضان (2016 / 2017) قيل ان الجمعية أقامت حفل إفطار كلف 200 ألف دولار فعاد للجمعية 230 ألف دولار! وهذه إشارة صريحة إلى انسحاب المتبرع اللبناني.

لكن لـ “المقاصد” رأياً آخر في أزماتها المتكررة، تلخصه في تراكم الديون الناجمة عن عدم سداد الدولة اللبنانية إيجارات العقارات ودعم المدارس منذ سنة 2013، وهذا أدى إلى عجز فادح في مدارس البقاع والشمال يراوح ما بين ٤٠% و٨٧%. أما تقصير المستشفى في تقديم المنح العلاجية فتحيله “المقاصد” الى تعنّت الضمان الاجتماعي ووزارة الصحة في تقديم الموافقات على العلاج في “المقاصد”، فضلاً عن تعرض قسم الطوارئ لاعتداءات متكررة من “الزعران”، فقبل أيام أعلن المستشفى عن إغلاق قسم الطوارئ بسبب الاعتداء المتكرر على الطاقم الطبي. وترى “المقاصد” أن الحل الجذري لمشكلاتها يتلخص في خطوتين: دفع مستحقاتها المتراكمة لدى الدولة، ثم تأسيس مشاريع ربحية تدعم الجمعية.

لا يمكن الحديث عن “المقاصد” من دون الإشارة إلى رئيسها الأول عبدالقادر أفندي القباني، أول رئيس منتخب لبلدية بيروت وربما مهندسها بصورتها الحديثة بمعايير زمنه، ففضلاً عن نهضته بـ”المقاصد” بنى السبيل الحميدي (ساحة رياض الصلح اليوم)، وبرج الساعة والمستشفى البلدي ومدرسة الصنايع، وغير ذلك كثير.

والحديث عن “المقاصد” يقود حتماً إلى الحديث عن دار الفتوى، التي يرأسها مفتي الجمهورية “الرئيس الديني للمسلمين اللبنانيين” كما نص النظام، والحديث تحديداً عن ملف الأوقاف النائم والساخن، ولا أذكر أن أحداً غير الرئيس فؤاد السنيورة حاول الاقتراب الإيجابي منه، علناً على الأقل.

وأتوقف الآن أمام أرقام مذهلة وصادمة، منها على سبيل المثال، أن دائرة أوقاف طرابلس تمتلك من العقارات الوقفية ما يزيد على خمسة آلاف عقار – زراعي وغير زراعي – يفوق ثمنها بالأسعار الرائجة (قبل ثورة تشرين) مليار دولار أميركي. وتتوزع هذه العقارات بين كل أقضية محافظة لبنان الشمالي بل خارجها أيضاً، كوقف أرزونا في سوريا. وتبلغ نسبة الواردات المالية المقدرة والمحققة في الموازنة 0.02% تقريباً من قيمة الأملاك الوقفية. وعلى الرغم من هذه النسبة الضئيلة جداً فإن نسبة الواردات النقدية الفعلية (التحصيلات) هي في حدود 0.01%.

هناك عقارات وقفية في دمشق تتبع لدائرة أوقاف صيدا التي تملك أيضاً عقارات شاسعة في المدينة وشرقها وجزين وفي جنوب لبنان، وتصل أملاك أوقاف صيدا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها على سبيل المثال – كما قيل – أرض مطار اللد، وأملاك أوقاف جبل لبنان تمتد من إقليم الخروب إلى جبيل، ومن أملاك أوقاف البقاع 120 دونماً من الأراضي والمباني المحيطة بأزهر البقاع. ومن الأرقام المذهلة أن أحد العقارات الوقفية يحقق أرباحاً سنوية تراوح ما بين 300 ألف و400 ألف دولار، فيما إيجاره السنوي ١٠ آلاف دولار فقط!.

لكن الملاءة النظرية لدار الفتوى لم تقف عائقاً أمام التفاف دول الخليج حولها، ونضرب المثل بمنحتين من المملكة العربية السعودية، منها منحة بمليون دولار أواخر التسعينيات، وثانية بـ10 ملايين دولار عام 2007، وصاحب المنحتين هو عبدالله بن عبدالعزيز ولياً للعهد ثم ملكاً.

والحقيقة، أن هناك التفافاً لبنانياً وعربياً ودولياً حول دار الفتوى نظير اعتدالها الصلب، ودورها المشكور في رفض التطرف والإرهاب. لذلك، ومن باب الحرص والمحبة، المأمول أوضاعاً أفضل لهذه الدار المحترمة.

بتحويل منطق الأرقام إلى لغة سياسية، نقول إن السُنة في لبنان يتنازعهم مشروعان خبيثان: الأول مشروع إيراني يستهدف في جوهره السُنة من أجل توسيع النفوذ الفارسي سياسياً وطائفياً، والمشروع الثاني تقوده تركيا وأذيالها، ويتبنى هذا المشروع شعار الإسلام السياسي لاغتيال العروبة والتنوع.

يفترض مواجهة المشروعين بمشروع عربي جامع. لكن هذا المشروع لم يخرج من دائرة الأفكار وحسن النوايا أولاً، والمشكلة الأكبر ثانياً أننا نشهد منذ أكثر من عقد عملاً ممنهجاً لتدمير الدول العربية، وبما أن الدولة العربية من ناحية عضوية، دولة سُنية، يتم توجيه الضربة تلو الضربة إلى رموز السنة ومدنهم، من اغتيال رفيق الحريري إلى تدمير الموصل وحلب وتهجير حزام بغداد السنّي والاحتلال الحوثي – الإيراني لصنعاء، وأحداث 7 أيار 2008 ليست بعيدة عنا، حين أقدمت ميليشيا “حزب الله”، الإرهابية والإيرانية، على احتلال بيروت وترويع الجبل. وبطبيعة الحال يفيد التذكير هنا بأن من احتل بيروت لا يمكن أن يحرر القدس.

من السهولة بمكان، ترداد “أدبيات” مواقع التواصل الاجتماعي، وتحميل السعودية المسؤولية عن أحوال السُنة في لبنان، لكن الحقيقة في مكان آخر، السُنّة اللبنانيون هم المسؤولون أولاً عن أحوالهم، وعلى الجميع أن يدركوا، لبنانيين وعرباً، أن الظروف في غاية الصعوبة، وإذا كانت هناك مشاريع خارجية تستهدف نحر الدولة العربية، فعلى سنة لبنان ألا يقعوا في فخ الانتحار. فأقصر طرق الهلاك عنوانها انتظار الآخرين، والتواكل هو أسرع أسباب التخلي، ولا يقبل المنطق أن يحجم سُنة لبنان عن المبادرة إلى ترتيب أمورهم ومعالجة أوضاعهم ورص الصفوف حول الحدود الدنيا من القواسم المشتركة والمصلحة العامة. وكما قصَّر العرب في فترات – بسبب اليأس أو تبدل الأولويات – فقد قدموا الكثير في فترات أخرى دعماً وتضامناً، والمؤكد أن لا أحد يريد ترك سُنة لبنان، لكن لا بد من اللقاء في منتصف الطريق.

في جمعية “المقاصد” ودار الفتوى رمزية سُنية جامعة، ونحن نتحدث بوضوح عن أزمة إدارة وليست أزمة تمويل على الأقل قبل أزمة لبنان الراهنة اقتصادياً ومالياً. فالأوقاف الإسلامية “السنية” كافية ليقترب سُنة لبنان من الاكتفاء الذاتي إن لم يصلوا إليه، وهذا الاكتفاء يجب أن يشمل “المقاصد” حكماً وحتماً، لكن “المقاصد” بحاجة إلى تغيير النهج، واعتماد الشفافية والإصلاح المالي الصارم. وتُحسب للرئيس سعد الحريري في 2018 مبادرته في توجيه وزارة المال بسداد مستحقات “المقاصد” (لم أجد بياناً من وزارة المالية يفيد بالتسديد)، لكن المطلوب هو الحل الجذري.

هناك عناوين عريضة لمعالجة ملف الأوقاف، أهمها مراجعة الإيجارات، وتعيين الوظائف الشاغرة، ومتابعة أملاك الأوقاف خارج لبنان وعدم التفريط في حقوقها مهما يكن السبب، وإزالة التعديات، والعمل بجدية لتحصيل الإيرادات، وفصل إدارة الأوقاف عن المفتين وتسليمها إلى شركة عقارية خاصة أو مكتب اقتصادي متخصص، وليس مطلوباً من دار الفتوى أي دور سياسي، لكن دورها الاجتماعي في المجتمع السُني واجب وفرض، واذا كان من دور وطني مطلوب من الدار في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان فيمكن تلخيصه بحضّ رعاياها على التمسّك بالهويتين اللبنانية والعربية، ورفض الاستسلام لتحالف الأقليات والمطامع التركية والهيمنة الإيرانية، والمحافظة على السنّة من جحيم العسكريتاريا والاسلام السياسي.

يجب أن يحافظ العرب والمسلمون على سُنّة لبنان، لكن قبل ذلك على سُنة لبنان المحافظة على أنفسهم. “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وأول الطريق أن يتكاتفوا ويتحدوا جميعاً لقيادة مساعي طرد الاحتلال الإيراني من لبنان، ولله عاقبة الأمور.

شارك المقال