ما الذي يدفع بوتين للمخاطرة بالحرب؟

حسناء بو حرفوش

تطرح الأزمة الأوكرانية من جملة أسئلة حول ردود فعل أوروبا والناتو والدور الأميركي، سؤالاً غاية في الأهمية حول السبب الذي يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأساس الى المخاطرة بشن الحرب؟ لماذا يهاجم دولة مجاورة لم تستفزه؟ لماذا يخاطر بدماء جنوده؟ لماذا يخاطر بفرض عقوبات وربما بأزمة اقتصادية؟ وفي حال لم يكن مستعداً حقاً للمخاطرة بهذه الأشياء، فلماذا يدخل في هذه اللعبة المعقدة؟.

وفقاً لتحليل في موقع “ذا أتلانتيك” (The Atlantic)، “يهدد بوتين بغزو أوكرانيا لأنه يريد للديموقراطية أن تفشل، وليس فقط في ذلك البلد. ولشرح السبب، يمكن العودة إلى التاريخ حيث أن العديد من تكتيكات بوتين، كاستخدام الانفصاليين المزيفين المدعومين من روسيا لشنّ حربه في شرق أوكرانيا، تكتيكات مألوفة من الماضي السوفياتي. ولعبت التجمعات السياسية المزيفة دوراً في هيمنة الاتحاد السوفياتي على أوروبا الوسطى بعد الحرب العالمية الثانية. كما لعب الانفصاليون الزائفون دوراً في الغزو البلشفي لأوكرانيا نفسها عام 1918. ويبدو في بعض الأحيان، أن بوتين يحلم بإعادة إنشاء إمبراطورية أصغر ناطقة بالروسية داخل حدود الاتحاد السوفياتي القديم”.

وعيّن بوتين في بداياته في مكتب الاتحاد السوفياتي في ألمانيا الشرقية، حيث واجه سقوط جدار برلين عام 1989 باعتباره مأساة شخصية. وفي الوقت الذي كانت فيه شاشات التلفزيون العالمية تنشر الأخبار السعيدة عن نهاية الحرب الباردة، كان بوتين ورفاقه في المخابرات السوفياتية في الدولة السوفياتية المنهارة يحرقون جميع ملفاتهم بشكل محموم، ويقومون باتصالات خوفاً على حياتهم ومهنهم. بالنسبة الى عملاء الاتحاد، لم تكن تلك فترة فرح، بل درساً عن طبيعة حركات الشوارع وقوة الخطاب: الخطاب الديموقراطي والخطاب المناهض للسلطة والخطاب المناهض للشمولية. واستنتج بوتين من تلك الفترة أن الحديث عن الديموقراطية والتغيير السياسي خطير. ولذلك توجبت “إدارة” المعارضة بعناية من خلال الضغط القانوني والدعاية العامة وصولاً إلى العنف الموجه إذا لزم الأمر.

لكن هذه السلطة تجعل موقف بوتين قوياً وضعيفاً للغاية في الوقت عينه، وهي مفارقة يصعب على العديد من الأميركيين والأوروبيين فهمها. إنه قوي بالطبع لأنه يسيطر على العديد من أدوات المجتمع والاقتصاد في روسيا. لكن سيطرته تأتي بلا حدود قانونية. وهو يعمل مع من حوله من دون ضوابط وتوازنات وقواعد أخلاقية ولاشفافية من أي نوع. فهم يحدّدون من يمكنه الترشح في الانتخابات، ومن يسمح له بالتحدث علناً، كما يأخذون القرارات من دون استشارة أحد. وعندما يفكر بوتين في شن غزو ما، لا يتعين عليه مراعاة مصلحة الشركات أو المستهلكين الروس الذين قد يعانون من العقوبات الاقتصادية. كما لا يأخذ في الحسبان عائلات الجنود الروس الذين قد يموتون في صراع لا يريدونه.

وفي الوقت عينه، يبدو أن موقف بوتين محفوف للغاية بالمخاطر. على الرغم من كل هذه القوة وكل تلك الأموال، ومن السيطرة الكاملة على مساحة المعلومات وعلى الفضاء السياسي، يجب أن يعرف بوتين، على مستوى ما، أنه زعيم غير شرعي. فهو لم يفز قط في انتخابات نزيهة، ولم يسبق له أن شارك في مسابقة قد يخسرها. وهو يعلم أن النظام السياسي الذي ساعد على إنشائه غير عادل إلى حد بعيد، وأن نظامه لا يدير الدولة فحسب بل يمتلكها أيضاً، ويتخذ القرارات الاقتصادية والقرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية المصممة لإفادة الشركات التي يستفيد منها هو ودائرته الداخلية شخصياً. كما يعلم أن مؤسسات الدولة موجودة للسرقة من الشعب الروسي بدلاً من خدمته.

ولقد برز وعي بوتين حول شرعيته المشكوك فيها على الملأ منذ عام 2011 ، بعد فترة وجيزة من “إعادة انتخابه” المزورة لولاية ثالثة مشكوك فيها دستورياً. في ذلك الوقت، تجمهرت حشود كبيرة في عشرات المدن، احتجاجاً على تزوير الانتخابات وفساد النخبة. وسخر المتظاهرون من الكرملين باعتباره نظاماً يضم “محتالين ولصوصاً”. لكن بوتين لم يلق باللوم على منتقديه في الداخل فحسب. بل اتهم الولايات المتحدة والغرب والأجانب بمحاولة تدمير روسيا، وقال إن إدارة باراك أوباما نظمت المتظاهرين. بمعنى آخر، لم يكن يقاتل المتظاهرين الروس فحسب، بل يواجه الديموقراطيات في العالم. لقد فهم بالتأكيد قوة اللغة الديموقراطية والأفكار التي جعلت الروس يريدون نظاماً سياسياً عادلاً. وعلى مدى العقد التالي، حمل محاربة الديموقراطية إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، حيث دعم الجماعات والحركات المتطرفة على أمل تقويض الديموقراطية الأوروبية، كما تدخل من خلال الإعلام والمتخصصين الروس والمعلومات المضللة في الانتخابات الأميركية عام 2016.

كل ذلك يشرح الأهمية غير العادية لأوكرانيا بالنسبة الى بوتين. هي مهمة أولاً كرمز للامبراطورية السوفياتية المفقودة، وكانت ثاني أكبر جمهورية سوفياتية من حيث عدد السكان وثاني أغنى دولة، بالإضافة إلى روابطها الثقافية الأعمق مع روسيا. لكن أوكرانيا الحديثة ما بعد الاتحاد السوفياتي مهمة أيضاً لأنها كافحت للانضمام إلى عالم الديموقراطيات الغربية المزدهرة. وكان الشباب الأوكرانيون يرددون شعارات مناهضة للفساد، مثلما تفعل المعارضة الروسية، ويلوحون بأعلام الاتحاد الأوروبي. واستوحى هؤلاء المحتجين من المُثُل نفسها التي يكرهها بوتين في الداخل ويسعى إلى قلبها في الخارج (…). وأدى غزو بوتين اللاحق لشبه جزيرة القرم إلى معاقبة الأوكرانيين لمحاولتهم الهروب من النظام الذي أراد حصرهم فيه، كما أظهر لرعايا بوتين أنهم سيدفعون أيضاً كلفة باهظة للثورة الديموقراطية.

وانتهك الغزو في السابق القواعد والمعاهدات المكتوبة وغير المكتوبة في أوروبا، مما يدل على ازدراء بوتين للوضع الغربي الراهن (…). ما يحصل هو الرد الإيديولوجي على الصدمة التي عانى منها بوتين وجيله من ضباط المخابرات السوفياتية عام 1989. وبدلاً من الديموقراطية، يروّج هؤلاء للحكم المطلق. وبدلاً من الوحدة، يحاولون باستمرار خلق الانقسام؛ وبدلاً من المجتمعات المفتوحة، فإنهم يروّجون لكراهية الأجانب. وبدلاً من ترك الناس يأملون بشيء أفضل، يروّجون للعدمية والسخرية. ويستعد بوتين لغزو أوكرانيا مرة أخرى، أو التظاهر بأنه سيغزوها مرة أخرى، للسبب عينه. فهو يريد زعزعة استقرار أوكرانيا وإخافتها. يريد ببساطة أن تفشل الديموقراطية الأوكرانية وأن ينهار الاقتصاد الأوكراني. ويريد من جيرانه، في بيلاروسيا وكازاخستان وحتى بولندا والمجر، التشكيك في قدرة الديموقراطية على الحياة على المدى الطويل في بلدانهم أيضاً. هذه الأهداف تشبه إلى حد بعيد أهداف الاتحاد السوفياتي الذي تسبب بالكثير من الأضرار أثناء محاولته إخضاع العالم للديكتاتورية”.

شارك المقال