عام 1814 بنى الشيخ بشير جنبلاط، المُلقب بعامود السماء لشجاعته وحنكته السياسية وعقيدته الثابتة، مسجدا ملاصقا لقصر الزعامة في بلدة المختارة الذي بنى فيها أيضا كنيسة سيدة الدر بعد أعوام قليلة وذلك ضمن رؤيته القائمة على التعايش وإرساء زعامة جامعة للمسلمين والمسيحيين، تتمثل قوتها بالتلاقي ولا سيما في بيوت الله التي دشنها الشيخ بشير جنبلاط الذي تميّز بتديّنه وممارسته لكل الشعائر الدينية.
هُدم جزء كبير من الجامع خلال الغزوة الشهابية على المختارة عام 1823 التي تلاها إعدام الشيخ بشير جنبلاط في دمشق من قبل والي عكا عبدالله باشا بأوامر من المصريين والأمير بشير الشهابي الذي كان الشيخ بشير جنبلاط قد ثبّت حكمه على الشوف. فكانت هذه الغزوة إنتقاما من فكرة التلاقي والتعايش التي جسدتها زعامة بشير جنبلاط الذي لم يخَف الموت بل سار بقدميه نحوه حينما راحت زعامته تتوسّع وعلاقاته الدولية تترسّخ ونفوذه هدّد حكاما وولات.
فكرة بناء جامع في المختارة لم تأتِ فقط ترجمة لرسالة التلاقي والتعايش التي أراد الشيخ بشير جنبلاط أن يرسيها بل هذه الخطوة حسب الإنتلجنسيا الدرزية أتت في سياقها التاريخي الصحيح لتؤكد البعد الإسلامي الكبير للموحدين الدروز الذي وصل الى مراحل متقدمة مع الأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي الذي يعتبر من أبرز المرجعيات الروحية المقدسة للطائفة التوحيدية والذي توّجت هامته بالعمامة الخضراء وكان يؤم المصلين بالجامع الأموي الدمشقي في حقبة معينة. وقد إستمر هذا الخط الإسلامي الشريف مع الأمير فخر الدين المعني الأول الذي بنى جامعا في بلدة دير القمر الشوفية عام 1493، وهو يعتبر اليوم من أقدم المساجد في جبل لبنان.
الإستعمار الفرنسي والبريطاني حاول خلق فجوة بين طائفة التوحيد وباقي الفئات الإسلامية لكن الزعامة الجنبلاطية حرصت في مختلف الحقبات على تكريس إنتمائها الاسلامي العربي العريق وعادت للقيادة السياسية اللبنانية من الباب العربي في شقه العروبي اليساري مع كمال جنبلاط الذي أكد عروبة لبنان وأبلغ جمال عبد الناصر عام 1959 في دمشق أهمية إبقاء لبنان مستقلا عن الوحدة السورية كي يبقى قوة للعرب.
في 18 أيلول 2016، إفتتح وليد جنبلاط جامع المختارة بعد حوالي مئتي عام على إغلاقه، وذلك بحضور قوى روحية وسياسية مختلفة أكد حضورها رسالة التسامح الديني والثقافي الذي تتميز به الغرضية الجنبلاطية التي ورثت أقوى العصبيات القيسية التي تضم مؤيدين من كل الأطراف الدينية.
أطلق وليد جنبلاط على جامع المختارة إسم جامع الأمير شكيب أرسلان المعروف بأمير البيان والذي كان من أبرز دعاة الوحدة الاسلامية العربية وإرتكزت أعماله الفكرية والسياسية والصحافية الى حثّ العالم العربي الإسلامي للوحدة والسير في ركب النهضة والتقدمية. وفي هذا الخيار أيضا تكريم لوالدة وليد جنبلاط السيدة مي أرسلان جنبلاط إبنة أمير البيان. في كانون الأول 2021، فاز الجامع بجائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد إلى جانب ستة مساجد حازت على جوائز الدورة الثالثة للمسابقة، والتي تم الإعلان عنها خلال الحفل الذي نظمه القيّمون على الجائزة في المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية بحضور الأمير سلطان بن سلمان المستشار الخاص للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز. وقد شارك في هذه المسابقة حوالي مئتي مسجد من 43 دولة حول العالم.
التنفيذ الجديد للجامع يأتي تَيمُنًا بأفكار المفكر والأكاديمي الجزائري محمد أركون التي تحمل شعار “الأنسنة والإسلام” إذ تدعو الانسان للإرتقاء الى درجة الأنسنة عبر إحياء الموقف الفلسفي الإبداعي للفكر الإسلامي. لذلك أتى جامع شكيب أرسلان جريئا كما أراده وليد جنبلاط وتقدميا كطروحات شكيب أرسلان في أصعب المحطات العربية الاسلامية، إذ يعطي جامع المختارة بعدا متقدما لعلاقة الإنسان بالله حيث الدين ليس مسألة جامدة أو دوغماتية. ويقول المهندس المعماري مكرم القاضي أحد مصممي الجامع “إن فهم عمارة المساجد بصورة تجريدية تخاطب القرن الحادي والعشرين كان من أبرز إهتماماتنا لإعادة تعريف أنماط المساجد”. جنبلاط وقتذاك أراد تصميما إبداعيا لجامع المختارة يحاكي حيثية هذه الدار وأهمية تبيان الصورة الحقيقية للإسلام في لحظة كانت ترتفع فيها أصوات “الإسلاموفوبيا” من كل حدب وصوب.
جامع شكيب أرسلان ليس فيه قبة وبرج للمئذنة بشكلهما التقليديين بل ثمة شفرات حديدية بيضاء اللون متداخلة مع البناء وكأنها تشكل حجابا. وترتفع هذه الشفرات البيضاء المتموّجة من إحدى زوايا الجامع فتعانق السماء وكأنها مئذنة. وبهذه الشفرات الحديدة تُقرأ كلمة “الله” من بعيد، كما تُقرأ كلمة “الإنسان” على تلك الشفرات التي تعانق الجامع. وفي الداخل كتبت كلمة “إقرأ” متموّجة بدورها على خشب بُنيّ لتحاكي أول كلمة في القرآن الكريم بكل ما تمثله من معان فلسفية إبداعية روحية قوامها الفهم والمعرفة.
يقول وليد جنبلاط في مقدمة كتاب كنيسة المختارة بين الكرسي والدارة للأب عيد بوراشد “قد يكون الدور الذي قام به بشير جنبلاط في تعزيز التواصل بين أبناء الأمة من كل المشارب والأديان سببا رئيسيا لإستهدافه”. ويضيف: “وبعد الرحيل المشؤوم لبشير جنبلاط، أحجبت قوى خارجية صراعا طائفيا لم يعرفه الجبل من قبل، وقد أعلنّا في المصالحة: أن هذا الصراع ولّى الى غير رجعة”.
ففي المختارة اليوم، جامع شكيب أرسلان العريق بحداثته والمتجذر في التاريخ الجنبلاطي الاسلامي المتين، وفيها أيضا كنيسة سيدة الدر المارونية التي أعاد جنبلاط ترميمها عام 2016 أيضا، وكنيسة سيدة الانتقال للروم الملكيين الكاثوليك وخلوة شيخ العقل علي جنبلاط للموحدين المسلمين الدروز. هو التنوع الوطني في بلدة، والكيان اللبناني بزعامة لطالما كان استهدافها إستهدافا للعيش المشترك والعروبة والتسامح والتنوع للبنان الرسالة كما رأه البابا يوحنا بولس الثاني.